اراء ومقالات

يتم التشغيل بواسطة Blogger.
اهلا وسهلا بكم في موقع الباحث علي سيدو رشو

لماذا تخلّف الإيزيديون؟ (1)
مع بدايات النهضة في المجتمع الإيزيدي، والتي أعتبرها منذ كتابة اسماعيل بك جول لمذكراته، كأول محطة مكتوبة بتفاصيلها عن بعض ما في المجتمع الإيزيدي من حقائق تستحق الوقوف عندها وتحليل حيثياتها بأيدي إيزيدية خالصة. وبالتأكيد قد سبقه آخرين من الكتّاب وبعض المستشرقين الاجانب في الكتابة عن الديانة والمجتمع الإيزيديين، بحسب ما توفرت لديهم من امكانية في التعرف على واقعهم، وقد أصبحت هذه المذكرات فيما بعد مصدراً للكثير من الأبحاث رغم بساطتها وطريقة سردها المتواضعة. وعلى الرغم من ظهور بعض النتف والمقالات البسيطة التي كانت تكتب سواء كانت باسمائهم أو باسماء مستعارة، كالتي كتبها السيد فائق رشيداني، لم تكن كافية لتلبية طموح المؤلفين في البحث عن حقيقة الايزيديين بمستوى ما كان ينسج حولهم من هالات ووطقوس وخرافات.
في فترة اربعينات القرن الماضي وبسبب نشاط بعض الاحزاب العلمانية وبالاخص الحزب الشيوعي، برز نشاط واضح بين الايزيديين وخاصة في منطقة بعشيقة وبحزاني؛ أولا، كونها قريبة من مركز مدينة الموصل وسهولة الوصول إليها والتواصل معها. وثانياً، بسبب انتشار الوعي بعد حصول التخالط فيما بين بعض الطلبة من الرعيل الاول أمثال المربين الأفاضل المرحوم شيخ صبري مراد وشيخ حسين إباهيم وحسن افندي وحسين سلو ومال الله ديوالي وسليما حجي وألياس خلو وعبدالله محيّر للدراسة في معهد المعلمين العالية وتبعهم في ذلك أجيالاً أخرى غيرهم. فانتشرت تلك الافكار بسرعة بين الايزيدية، وزحفت إلى سنجار حيث الغالبية من سكانها من الايزيديين وكان من بين أهم النشطاء السياسيين آنذاك المرحوم عزام قطو من قرية بارا، ومن المسلمين كان المرحوم سليمان صولبند.
إذن هكذا كانت وبدأت البدايات، ولابد لكل بداية من أن تعاني من صعوبات وتجابه تحديات تعتمد في قوتها وخطورتها على حسب المرحلة التي تنمو فيها (النهضة)، وكانت الحالة أيضاً مع أولى بوادر النهضة من الداخل الايزيدي. كانت تسير بالتوازي من هذا الامر، شهوة بعض الكتّاب والمؤلفين والمستشرقين في البحث عن هذه الهالة التي أحاطها الايزيديون بانفسهم، بل تلك التي أحاطتها الغير من حولهم وفرضتها عليهم. مما كانت تستدعي البحث والوقوف عندهم كأحد أغرب الاقوام التي عاندت الدعوة الاسلامية وبقت في وسط هذه الدعوة العنيفة محتفظة بقوتها في الابقاء على أفكارها وعقيدتها، رغم الويل الذي ذاقته بسبب رفض تلك الدعوة والابقاء على عقيدتها.
لقد كان، ولا يزال، المجتمع الايزيدي وما يحيط به من مجتمعات بكافة طبقاتها ودياناتها ومعتقداتها تعاني من التخلف، ولكن هذا المقدار من التخلف قد لا يكون بنفس الدرجة لدى الجميع بسبب عوامل توفرت للبعض منهم ولم تكن من السهولة أن تكون تلك العوامل متوفرة لغيرها مما جعل البعض تتقدم على بعضها الآخر بصورة نسبية. وبالتالي ظهر مقدار معين من التخلف على أساس المقارنة فيما بين تلك المجتمعات، كونهم عاشوا في نفس البيئة التي يمكن من خلال المقارنة بين المكونات تمييز درجة التخلف (والتقدم) بوضوح فيما بينهم. وهذا الامر وبسبب عوامل عديدة ومن أهمها الدعوات والفتاوى الدينية بتحريم وتكفير الايزيديين، جعلهم يتقوقعون على أنفسهم في بيئات جغرافية صعبة وبعيدة عن الحضارة، وبالتالي اصبح من السهل نسج الهالات والخرافات بما يحلو لهم بحيث يتم تصويرهم في وضع يجعل الانتقام منهم بأبسط ما يمكن ولمجرد الاعلان عن دعوة للجهاد. وهكذا بدأ التشديد يضغط عليهم وزاد مع ذلك مقدار العزلة والتخلف عما محيط بهم من أقوام.
من الطبيعي جداَ أن يزحف تأثير هذا التقوقع عشائريا من الداخل بحكم الضغط والتعايش في بيئة مغلقة ونمو المصالح الشخصية والمصاهرة والنفوذ والتحالفات على المستوى الداخلي مما تسبب في خلق المشاكل الإجتماعية ونمو التطرف والعشائرية. وكذلك نمو دور الجانب الديني بما يحمل من الخوف من الاخر الذي لم يدخر جهداً في الانتقام، ومصالح رجال الدين في الابتعاد عن التقدم والحضارة والتعليم والجمع مابين السلطة الدينية والعشائرية وتأثيراتها على الواقع الاجتماعي وزيادة العزلة الداخلية. ومن ثم جمع جميع السلطات الدينية والدنيوية بيد الامارة وبعض المحسوبين بحيث تصب جميع الخيارات في مصلحة الامير الذاتية.
إذن، هكذا كانت البدايات على الاقل حسب فهمنا ومعايشتنا للواقع، فالجميع مسئول عن هذا التخلّف سواء الداخل الايزيدي، أو المجتمع المحيط أو السلطات الرسمية أو الباحثين الذين لم يهتموا بالجانب المحايد وأصول البحث النزيه وتقديم النصيحة للدولة بمعالجة واقعهم، وإنما كان الامر فقط تماشياً واسترضاءً لرغبة الشارع الاسلامي، أو جهلاً بالحقائق والاعتماد على النقل الاعمى. عليه، فإنه هنالك أسباب أساسية لهذا التخلف منها ذاتيه فرضه الواقع بعد العزلة بحيث ظهرت العشائرية بأوجها وسيطرت بعض القبائل على غيرها وبالتالي سببت في خلق نزاعات دموية في الداخل الايزيدي وما ارتبط بها من تحالفات مما ساهمت في إضعاف الضعيف. ومن الجانب الثاني تنمية دور رجال الدين والامارة وجمع السلطات التنفيذية والتشريعية بيد الامير.
ومنها عوامل موضوعية مرتبطة بالمحيط الخارج من حيث إهمال الدولة وعدم معالجة الامور بعقلانية ومن ثم التأثيرات العشائرية والدينية للإنتقام مما أضطر معه المجتمع الايزيدي بتغيير الكثير من سلوكياته وهيئته لتفادي الاحراج كما هو الحال في تغيير الاسماء وهيئة اللبس حسب الظروف والمنطقة الجغرافية التي يعيش فيها. ومع كل هذا يجب أن لا ننزه الايزيديين على أنهم ملائكة لم يساهموا في خلق صعوبات، بل راح الكثير منهم في تلك الفترة يعمل كقطّاع طرق واعتراض سبيل القوافل بدافع الجوع أو إبعاد الخطر، أو إثبات الذات للخصم بقوته على التمسك ببعض زمام الامور على الاقل في منطقته التي يعيش فيها لكي يحافظ على هيبته (ومملكته). وقد تم تفسير هذه السلوكيات من المقابل بوحشية الايزيدي مما يستدعي القيام بالإنتقام والاستنجاد بجهد الدولة في كثير من الاحيان لتحقيق الهدفين؛ الديني والدنيوي معاً.
وحسب فهمي للحال فإن موضوع التراث كإحدى أهم البوابات التي تسلط الضوء على تاريخ الشعوب، يعد واحداً من اهم النقاط الاساسية التي يجب التعامل معه بدقة وتحذير الشباب والباحثين من القراءات غير المتوازنة، لان ذلك سوف يخلِف أفكاراً مشوشة عن تاريخ ونضال المجتمعات وخاصة تلك التي تعتمد على النقل الشفاهي كما هو الحال مع المجتمع الايزيدي والتي تعد واحدة من الاسباب الرئيسية التي ساهمت في تعزيز التخلف، لكونها لم تعمل على تواصل الاجيال. وكان للباحثين الشابين خليل جندي وخدر سليمان الدور الرائد في هذا الحقل في ثمانينات القرن الماضي. ولكن بسبب عدم الاستقرار والتهديدات والغزوات لم نقف على مرحلة أبدع فيها الإيزيدي في مجال الطب أو التكنولوجيا أو الادب إلا حالات استثنائية كما هو الحال مع الحكيم الشعبي والجرّاح المشهور مراد براهيمكو الذي (قد لم يسمع به أحد خارج منطقة سنجار)، وهو من قرية المجنونية في ستينات القرن الماضي، حيث كانت جميع حالات وقضايا الجرحى بعيدة عن عيون السلطة. وكان هنالك آخرين مثل عطو شيخ خضر الذي كان خبيراً في طب الاعشاب، وعائلة فقير كَسو المعروفة في الحساب والفلك، وقاسمي ميري في وصف الحوادث والمعارك التاريخية من خلال الادب الشفاهي ونقلها عبر الاغنية والمقام، وعيدو كتي من خلال الاغنية القصيرة، وبعض الرواة مثل فرمان شمو تويني في نقل الملاحم والبطولات والمواقف كما في حالة قصص بطولات درويشي عفدي في الحب والقتال، وإيزيدي ميرزا وشيخ ميرزا القوسي في التضحية من أجل المباديء والوفاء، وشيخ كالو في التضحية بالنفس فداءً للدين، وعلي بك في مقاومة الظلم، وصمود الايزيديين بوجه حملات الابادة مثل سمو فاطمي في سنجار، ويجب أن لاننسى الدور الاساسي للباحث الفاضل أبو آزاد في التدوين المرئي للتراث واسهاماته البارزة في نقل الحقيقة من خلال الصورة والصوت. فلكل هؤلاء وغيرهم الدور المشّرف في خلق التراث، ولكن علينا متابعته والاهتمام به وتبويبه ونقله بأمانة إلى الاجيال، لأن التراث يعتبر بمثابة الوعاء الذي يودَع فيه مراحل التاريخ والدروس التي يمكن استنباطها منه، وهو بالتالي يعد المرجع الذي يمكن أن ينهل منه ما يحتاجه الباحث.
لقد كان هذا الحكيم الجرّاح الأمي (مراد براهيمكو)، بالامكانية بحيث يعمل على إجراء أعقد العمليات الجراحية الناجمة عن الاطلاقات النارية أثناء النزاعات العشائرية (وقد عايشت الكثير منها شخصياً)، ولو كان في حينه قد تم تسجيل امكانياته، لكان من الممكن ان تدرّس أفكاره في الكليات العلمية الآن، وكنت اتخيل حركاته وسرعة البديهة وقوة القرار لديه عندما التقيت لاول مرة بالدكتور عجيب علي وهو يمشي بين الردهات ويعطي الاوامر بكلمات قصيرة وحادة وبثقة عالية. وبهذا الاهمال وترك التراث وعدم الاهتما به، ضاع الكثير من الجهد وانقطعت حلقات التواصل التراثي بين الماضي والحاضر وساهمت في تخلفنا لغاية اليوم. فبدلاً من تنمية تلك الافكار والكفاءات والقدرات ورعايتها، راحت الكثير من الجهات تكيل لها التهم الباطلة والكيدية بهدف تعطيلها والانتقام منها. فالذي أريده من هذا الموضوع والمقدمة للدخول في حلقات لتلسيط الضوء على "لماذا تخلّف الايزيديون؟"، هو إظهار وإبراز دور تلك الكفاءات والقدرات لكي لا نقول بأننا لم نساهم في البناء الانساني رغم مأساتنا. ثم بيان أسباب تخلفنا من مختلف الأوجه في حلقات متتالية.
ملاحظة: أرجو من كل مَن لديه فكرة أو متابعة أو إهتمام بهذا الموضوع إسعافنا بما يحقق الفائدة ويحفظ حقوق الناس للتاريخ.

للموضوع بقية.


لماذا تخلّف الايزيديون؟ (2)

تطرقنا في أكثر من مناسبة فيما سبق وضمن مقالاتنا العديدة أو ضمن تقارير حقوق الانسان، حول تأثير الاقتصاد والتعليم بشكل أساسي على تاخر الايزيديين، ونعود اليوم بإعادة إثارتهما ولكن بشيء من التخصيص أكثر وتأثيرهما على المستقبل الايزيدي من حيث علاقتهما المباشرة كعوامل تؤثر بفاعلية على تخلف الايزيديين، وسنركز هنا على الجوانب الاقتصادية فقط.
كان المفكر الالماني باول شمتزي يرى بأن الغرب هو المسئول عما أصاب العالم الاسلامي من جمود وضعف وتخلّف على الرغم مما في العالم الاسلامي من عناصر القوة التي تتمثل في عقول وكفاءات بشرية وثروات طبيعية ومالية وموقع جغرافي مهم، ولكن العالم الاسلامي يتحّمل نصيبه من المسئولية لأنه أهمل عناصر القوة لديه ولم يدرك خطورتها (جريدة الاهرام/الاحد 27/4/2008).
فبإلقاء نظرة على ما في قول المفكر الالماني نجد بانه يؤكد على عاملين أساسيين؛ عامل خارجي متمثل في الغرب وتقدمه العلمي والتكنولوجي، والآخر داخلي متمثل في الواقع الاسلامي المتخلف علمياً وصناعياً. ويمكن تطبيق ما جاء في فكر هذا المفكر على الواقع الايزيدي من الناحية الاقتصادية ومقارنة هذا الواقع مع ما في العالم الاسلامي، ولماذا لا يريد الغرب له أن يتقدم. فالجواب بكل بساطة هو، لكي يبقى العالم الاسلامي البالغ أكثر من مليار إنسان مجتمعاً استهلاكياً، وسوقاً معتمداً على الصناعات الغربية لكي تعمل صناعاتهم بفعالية وأن تبقى السوق الاسلامية بحاجة ماسة ومستمرة لتلك الصناعات، وبالتالي فإنه ليس من مصلحة الغرب ان يتطور هذا العالم صناعيا واقتصاديا لكي يبقى معتمداً ومستهلكاً لتلك الصناعات. فهو بذلك يزداد فقراً وتخلفاً، والغرب يزداد غنىً ووعياً، وهكذا ستبقى وتستمر الفجوة بينهما وستزداد حجماً يوما بعد يوم.
فمن وجهة نظري ومن خلال بعض الوقائع الملموسة، فإن المحيط العربي سابقاً والكردي حالياً كانا ولا زالا يتعاملان مع المجتمع الايزيدي بنفس الروحية والنظرية ليجعلوا منه مجتمعاً إستهلاكياً لسوقهما التجارية. وهذا مانراه بوضوح اليوم في التعامل مع الواقع الايزيدي من حيث العمل والتعامل التجاري، فزاد الآخر غنى والايزيدي ازداد فقراً ولكن، مع الاسف، فإن الطرفان بقيا على تخلفهما على عكس ماحصل من تطور في الغرب وتخلف في الشرق.
المقارنة هنا قد تكون غير واقعية من حيث الأمكانيات، ولكنها بالتأكيد تتفق معها من حيث المبدأ. فمن حيث الواقع والامكانيات؛ الايزيديون ليسوا بدولة ولهم تشريعاتهم الخاصة بهم ، وليست لهم مؤسسات ومصانع وامكانية استغلال الثروات الطبيعية المتوفرة على أراضيهم. وبذلك فهم من الناحية الاستهلاكية يعتبرون افضل سوق دائمية لتصريف البضائع الاستهلاكية وأنهم ساهموا ويساهمون بشكل واضح وفعّال في تنمية الاقتصاد المحلي لغير الايزيديين، خاصة بعد أن تحددت حركتهم بعد أحداث عام 2007 في كل من الشيخان وبعشيقة وسنجار. أما، لماذا لم يتم الاهتمام بالتجارة والدخول في السوق والتعامل التجاري والتنمية الاقتصادية منذ زمن؟ فلها شأن مهم جداً ويستوجب شرح مراحل تاثيره السلبي.

مرحلة ماقبل 1970.
في مقالنا السابق اكدنا على تأثير الفهم السلبي لدور التراث في تقدم المجتمعات، وقلنا بأن التراث هو عبارة عن مجموعة نشاطات في مختلف الاوجه للوصول بالمجتمعات إلى مرحلة معينة. ويعد الاقتصاد واحداً من تلك الاوجه الاساسية في الحياة العامة للشعوب، ومن المهم فهم واستيعاب المراحل التي مر بها وتقييمها لتفادي المطبات وتعزيز المثابات.
فمنذ خمسينات القرن الماضي ولغاية عام 19975، وعندما كنا في القرى القديمة قبل أن يتم تجميعنا في مجمعات سكنية، كان يعاب على الذي يتعامل بالميزان، أي التعامل التجاري. بل كنت أسمع بأن فلان، من العائلة الفلانية قد خطب بنت البقال الفلاني؛ يا للعار. وإذا عمل شخص ما في التجارة والاستثمار، كان يقال بأن فلان من العائلة الفلانية يعمل في الربا، وفي اغلب الاحيان كان يجلس في طرف المجلس كرجل غير مرغوب فيه، او في بعض الاحيان كنا نجلب التراب من بيته خلصة ونضعها على بيوت النمل لكي تهجر مكانها لكون هذه الحشرة المباركة لاتأكل من مال الربا. وبذلك أجتمع عاملا الدين والعرف الاجتماعي وتعاونا بشدة لتضييق الخناق على هذا المحيط الضيق ويقتلا بالتالي كل طموح وتقدم أقتصادي. وعليه، فقد تحددت مساحة العمل بهذه المهنة الحساسة والتي أثرت على الامكانيات المادية إلى أضيق الحدود حتى تمكن الآخرون منهم مادياً، وبالتالي استضعافهم اخلاقياً واستغلال امكانياتهم البشرية.
وأتذكر أيضاً بأن بعض القرى، ومنهم قريتنا، كانت تدعو وتستقدم بعض المسلمين أو المسيحيين من القرى المجاورة لفتح محلات بسيطة لتلبية حاجيات القرية من المونة وبقية المواد التي لها مساس مباشر بحياتهم اليومية من سكر وشاي وصوابين ومحروقات وغيرها. وكان في قريتنا "تل حيال"، بقال مسلم خاتوني وحيد أسمه فياض. وآخر اسمه محمد مصلاوي، الذي أصبح إبنه فيما بعد صاحب أكبر مصلحة من حاصدات وساحبات وقام بزراعة آلاف الدونمات من أراضي نفس القرى، واشترى فيما بعد الاملاك في البلد واصبح صاحب نفوذ ومن الاثرياء وكان يتوسط لنفس أهل القرية لدى الجهات الحكومية في تسهيل معاملاتهم المختلفة. بل كانت النظرة إلى جمع المال تعد واحدة من الاسباب التي قد تضر بالدين ويجب على الإيزيدي أن يعيش حد الكفاف لكي لا ينظر إلى متاع الحياة وينسى الدين والآخرة. بينما لم يستفد أحد من القول العظيم الذي كنا نسمعه من نفس الاشخاص آنذاك عندما كانوا يقولون بأن الانسان يستطيع أن يشتري الدنيا والآخرة بالمال. إذن، هكذا كانت النظرة إلى موضوع التجارة والعمل التجاري والاستثماري، فكيف لا يتخلّف هكذا بشر؟
وفي عام 1992، كان هناك فلاحاً من سنجار يعمل بمزرعة في قرية السلامية التي تبعد عن الموصل حوالي 30 كم. وبعد أن انتقل إلى مزرعة اخرى داخل مدينة الموصل، سألته عن حاله والفرق بين العيش في المكانين لاجل راحته وراحة اولاده من حيث الكهرباء والخدمات الاخرى وقربهم من المدارس حيث كان مبعث فرح بالنسبة لي. ولكنه فاجاني بالقول؛ الا تعلم بأن الانسان يصبح أكثر تعاسةً كلما أقترب من الميزان؟ وكان كلامه هذا هو كناية عن التعامل مع الميزان والعمل التجاري، وما يحمله من ذلك الفكر العشائري القديم.

واقع المجتمع آنذاك:
في الواقع كانت الحياة بسيطة إلى درجة كبيرة بحيث كان الاعتماد فقط على الثروة الحيوانية والزراعة لحد الكفاف فقط، لكون غالبية القرى كانت على خلاف عشائري مع بعضها من جهة، ومع العشائر العربية المجاورة بسبب بعض الغزوات والخلافات على الاراضي الزراعية ومناطق النفوذ العشائري وكذلك لاثبات الذات من الجهة الثانية. فكان قلما تجد عائلة لا تمتلك بعض المواشي من الغنم أو الماعز والحيوانات التي كانت تستخدم للعمل الزراعي كالحراثة والتنقل، وبالطبع كانت هذه الحيوانات بحاجة إلى رعاية ومتابعة واهتمام. وأن معظم الاراضي الزراعية كانت مقسمة عرفياً فيما بين الفلاحين بحيث أن لكل فلاح مساحة من الأرض على قدر عدد أفراد عائلته ومركزه الاجتماعي بما يسد حاجات عائلته السنوية من زراعة القمح والشعير بصورة خاصة. إضافةً إلى ذلك، كانت هنالك عوامل مساعدة أخرى ك بساتين التين والعنب وبعض الفواكه الاخرى كالمشمش والخوخ ومحصول التبغ التي كانت تعد مصدرا مساعدا وإضافياً للدخل العائلي. ولا يخفى ما كانت تستخدمه بعض العوائل المتنفذة في استغلال جداول المياه في القرى وزراعة بعض محاصيل الخضر كالطماطة والخيار والباذنجان والبصل وغيرها لسد حاجة الاستهلاك العائلي وبيع الفائض، أي أن تربية الحيوان والزراعة كانت هي العماد الاساسي للإقتصاد العائلي في ذلك الوقت.
بعد ثورة تموز عام 1958 وتغيير النظام الملكي، تنفس الايزيديون السعداء كغيرهم من فئات الشعب العراقي بعد أن أوعز الزعيم عبدالكريم قاسم بتوزيع التموين على الفقراء وكان للإيزيدية حصة كبيرة في ذلك الدعم وكذلك نظام التغذية المدرسية، فتحسنت الظروف المعاشية جزئياً. ولكن الوضع الاجتماعي أستمر بصورة عامة على ضعفه وهو واقع حال معظم العراقيين آنذاك. وأتذكر الانشودة التي كنا ننشدها كأطفال (عبدالكريم كريفي مه يا، وناني جه هي المه توبه يا: أي أن عبدالكريم كريفنا ويحرم علينا أكل خبز الشعير بعد الان). ومن جانب آخر كانت تعتبر الموارد الطبيعية في جبل سنجار أحد أهم مصادر الدخل للإيزيديين عندما قامت الاهالي بتحويل جميع الاماكن الممكن زراعتها وتحويلها إلى مدرجات ومصاطب لزراعة اشجار التين، التي اشتهرت بها سنجار، والعنب والرمان والسماق واستغلال ما بين الاشجار من المساحات الفارغة بزراعة الخضراوات لسد الاحتياجات العائلية في ذلك الوقت. ولا ننسى ما كان في الجبل من ثروات طبيعية كأشجار البلوط وحبة الخضراء والزعرور والجوز والنبق كمصادر للغذاء، إضافةً إلى الاستفادة من الحطب للتدفئة شتاءً وعمل الفحم من أخشاب البلوط وبيعها كمصدر مهم لأقتصاد العائلة. أي أن واقع الحال لم يكن يساعد على التطوير الاقتصادي على حسب العوامل التي مر ذكرها خارجياً وداخلياً.
مرحلة مابعد 1975:
في الحقيقة، مرحلة ما بعد 1975 هي امتداد لما حصل منذ 1968، أي بعد استلام حزب البعث السلطة في العراق وتفاعل الايزيدين مع مسألة الحكم الذاتي للأكراد. وبناءً على تعاطف الايزيديين مع القضية الكردية ورفع تقارير عن هذا التعاطف إلى قيادات الحزب عن واقع الايزيديين وكيفية الاحتماء بالجبل، قامت السلطة بتجميع الايزيديين في مجمعات سكنية قسرية تفتقر إلى أبسط مقومات الحياة المدنية في مناطق تبعد عن الجبل ب 15 كم كحد أدنى. وبهذا الاجراء، فقد الايزيديون أهم مصادر دخلهم من الزراعة والثروة الحيوانية وكذلك الابتعاد عن الجبل الذي كان الحامي للكثير من حملات الابادة التي تعرض لها الايزيديون على مر التاريخ، واصبح فيما بعد من المحرمات التي لا يمكن لهم التقرب منه لكي يتجنبوا التهم الكيدية والشبهات الملفقة.
بعد هذا الوقت بدأت التنمية الانفجارية في العراق، ولكون للمجتمع الايزيدي خبرة في مجال البناء والعمالة، أصبحت الايدي العاملة متوفرة بعدما فقدوا مصادر دخلهم كما اسفنا، وابتعدوا عن الجبل ولابد من التفاعل مع الحالة الجديدة. فأخذ العديد منهم بالتعاون مع قسم من المتنفذين بعض المقاولات من الباطن وكانت افواج من العمال والبنائين يعملون في بناء المعسكرات والمجمعات السكنية والمرافق العامة ودخلوا الوظائف المدنية كما حصل بتعيينهم في معامل النسيج والسكر والسمنت. كذلك دخلوا الجيش لاول مرة بشكل نظامي وحسب دعوات المواليد من التجنيد العامة، ونمت حركة الحياة الاقتصادية حيث تعددت مصادر الدخل، والاطفال دخلوا المدارس وزاد الاهتمام بالصحة العامة ونفذت برامج محو الامية وزاد التفاعل الاجتماعي بين الايزيديين وباقي الشرائح الاجتماعية سواءً في الجيش أو الجامعات أو في ساحات العمل بسبب هذا التخالط الاجتماعي-السياسي. وبالتالي زاد معها الوعي العام ونمت مساحة القبول به من قبل الاخر المتشدد.
ويجب أن لا ننسَ ما كان للنظام البعثي العلماني وتشريعاته بخصوص الاقليات الدينية والعرقية من الدور البارز في هذا القبول من الاخر والاعتراف به كإنسان له كرامته ووطنيته. ولكن لم يتعدى الجانب الاقتصادي حدود الكفاف وبقي يراوح في مكانه، إلا أنه فتح الباب ولو جزئياً على الطريق التي يمكن أن يسلكه المجتمع في مجال التنمية الاقتصادية.
وفي منطقة الشيخان كان الامر لا يختلف كثيراً عما حصل من ظروف مشابهة لواقع سنجار إن لم تكن اعقد منها بسبب التعامل مع المسألة الكردية من جهة، وكونها محاذية وبتماس مباشرلتلك المناطق، وكانت لها من الحساسية أكثر مقارنةً بالحال في سنجار. فبالاضافة إلى التجميع في مجمعات قسرية، تم جلب عشائر عربية واسكانهم محل الايزيديين بعد مصادرة الاراضي التي كانت المصدر الاساسي لمعيشتهم ومنحها للعرب وبالتالي قام الايزيديون يؤجرون أراضيهم من العرب الجدد مناصفةً. واستمر هذا الحال المزري لحين سقوط النظام في 9/4/2003. وقد ترتب على هذا الامر ضياع ثلاثة عقود من الزمن وفرص العمل وتدني مستوى المعيشة وتحددت الاستثمارات وتراجعت المنطقة اقتصاديا وضعفت امكانياتهم المادية وبالتالي لم يكن باستطاعتهم تنيمة مواردهم بسبب صعوبة العيش وصعوبة تخطي نقاط التفتيش ومحدودية المناورة والحركة التجارية التي باتت مرهونة باستغلال بعض المسئولين لجميع النشاطات والتي كانت مقتصرة على تهريب المشتقات النفطية وغيرها لصالحهم سواء أكانوا عرباً أم كرداً، وعلى حساب الايزيديين طبعاً.
أما في بعشيقة وبحزاني ولكون المجتمع فيها يتمتع بالجانب المدني وغالبيتهم كانوا يعملون في الوظائف الحكومية ولقربها من مدينة الموصل التي كانت تربطهم بها علاقات تجارية، وطبيعة مجتمعها وعقليتهم المتنامية قياساً حتى بباقي فئات المجتمع العراقي، فلم يكن التأثير السلبي بتلك الدرجة التي عانى منها الايزيديون في كل من سنجار والشيخان. فقد نمت فيها الحركة التجارية بعكس بقية مناطق الايزيدية بحيث أصبحت في ظل الحصار واحدة من أهم مراكز تصنيع المونة والطرشي والزيتون والراشي وزيت الزيتون والصابون وانتاج محاصيل الخضر مثل البصل والفسقة المشهورين على مستوى القطر. وقد غزوا معظم مدن العراق واشتروا العقارات ودخلوا في عمق السوق ونشروا مساحة العمل التجاري بحيث اصبحتا من مراكز الاستقطاب التجاري الكبيرة وجلب الاستثمارات. إن في هذا لدليل واضح على أن الانسان الايزيدي نشط وفعّال وقادر على خلق المبادرات إذا ما توفرت له الظروف المناسبة والاستقرار، بعكس ما ينظر إليه من قبل الاخر على أنه لا يفقه من الحياة سوى العيش في ظروف قاهرة بعيدة عن المدنية والحضارة.
وبموازاة جميع هذه الظروف سواء في سنجار أو في الشيخان أو في بعشيقة وبحزاني، فإن الحركة العلمية لم تقف عند حد معين، وزاد عدد الطلاب الملتحقين بالجامعات موزعين على مختلف الاختصاصات، بحيث فاقت نسبتهم فيها عن جميع الشرائح الاخرى من المجتمع العراقي قياساً بعدد النفوس.

الوضع بعد 1991.
بعد هذا التاريخ بدأ الخراب يدب في جسم العراق إنساناًَ وكياناً وارضاً وماءً ونظاما من حيث الفساد ونمو التطرف وظهور بدايات الانشقاق الاجتماعي بين شرائح المجتمع، ومع أنه لم تظهر تلك العلامات في بداياتها بشكل واضح وجلي، إلا أنها كانت تنخر في الخفاء في كل مفصل من مفاصل الحياة كما ينخر السوس الاسنان. إن أكثر العوامل التي شجعت من تلك الصعوبات هو استغلال الشعور الديني وإلهاب العواطف سواء ماكانت تستدعيه مصلحة النظام السياسية أو ما كانت تفعله القوى التي كانت تتستر باسم الدين ولكنها تعمل في إتجاهات أخرى. وأن الذي شجع من هذا النمو المتطرف هو عندما تزعم عزت الدوري الحملة الايمانية التي كانت في الحقيقة تغطية لمأرب سياسية، مما أثرت بشكل فعّال على تخريب المجتمع وزرع بذور الفتنة بين المكونات المختلفة ووفرت الارضية لإثارة النعرات ولو بشكل خفي وتحت (رعاية) الحزب. فبعد هذا الزمن أخذ الحصار يتمكن من الشعب العراقي وخاصة الفئات التي لم تكن مستعدة لمجابهة جبروته. فتقلصت فرص العمل وتوقفت المشاريع وغادرت الشركات وزاد سعر المواد وانخفضت القدرة الشرائية وهكذا دواليك.
الذي يهمنا من هذا هو تاثير تلك الفترة على الواقع الايزيدي من الناحية الاقتصادية بشكل اساسي. فكان مشروع ري الجزيرة في منطقة ربيعة يعد واحداً من المشاريع الكبرى في الشرق الاوسط، وهو مصمم للري التكميلي لمساحة 260 ألف دونم في واحدة من أخصب الاراضي الزراعية في محافظة نينوى وعلى مستوى العراق عامة. وبما أن المشروع كان مخصصاً للري التكميلي، فقد كان مسموحاً باستثمار 10% فقط من تلك المساحة لزراعة الخضراوات والباقي يجب أن تزرع بالمحاصيل الاستراتيجية كالحنطة والشعير والذرة فقط. بعد أن فرضت الامم المتحدة الحصار على العراق، سمحت الدولة باستثمار الاراضي بحسب ما يتطلبه الواقع الجديد وبما يعزز من الامن الغذائي واطلقت يد المواطن في التصرف بالكيفية التي يرتايها. فقام شيوخ الشمر في ربيعة باستثمار الاراضي في زراعة المحاصيل التي تجلب لهم الربح السريع كالطماطة والخيار والبطاطا والرقي وغيرها من المحاصيل ذات الربحية الكبيرة والسريعة.
من المعلوم أن العرب بصورة عامة لا يجيدون العمل في الحقل الزراعي، وأن فرص الحياة تحددت من جديد أمام الايزيديين بسبب توقف المشاريع الحكومية وانخفاض قيمة العملة العراقية وتدني مستوى المعيشة وصعوبة الحصول على متطلبات الحياة بالوسائل التقليدية كالوظيفة أو العمل اليومي. لذلك وبما أن المجتمع الايزيدي له خبرة كبيرة في العمل الزراعي وكون المنطقة قريبة من منطقة سكناهم في سنجار، فتحولت ربيعة إلى سنجار ثانية، حيث قدرت بعض الجهات غير الرسمية بأن عدد العوائل الإيزيدية التي كانت تعمل في الزراعة في ربيعة قد تجاوز 50 الف عائلة بكافة أفرادها في ظروف لم يسبق لأي إنسان عراقي أن عاشها على مر تاريخه لوضاعتة وقذارته وبؤسه. وظهر فيها مرض الملاريا بسبب الاعتماد على شرب الماء من السواقي المفتوحة، وقد سمّي المرض حينذاك بمرض "الكرفان". علىىىىىىىىىىىىى الايزيديين أن لا ينسوها للأبددددددددددد.
صحيح أن البعض استفادوا مادياً في السنين الاولى من العمل الزراعي فيها، ولكن بعد ذلك انقلب وبالا عليهم بعد أن تفنن العرب في استغلالهم بابشع ما يمكن أن يقال ناسين بذلك جميع أخلاق الجيرة والتاريخ والانسانية وتحولوا إلى مصاصي دماء ووحوش كاسرة مستغلين ضعفهم وحاجتهم للعمل بشكل لا يوصف من الناحية الاخلاقية، وسيسجل التاريخ لعرب الشمر في ربيعة كل الخزي والعار وخيانة الوطنية والمواطنة وحسن الجوار مع الايزيديين بحيث لم يستفد فيما بعد من اتعابه في العمل في تلك الاراضي، إضافةً إلى الاهانات التي تلقوها بعد أن تعلمت تلك الاعراب كيف يمكنهم أن يتفننوا في استغلال ضعف الايزيديين لصالحهم.
لقد اصبحت نعمة ربيعة في أولها إلى نقمة ليس لها مثيل في التاريخ الايزيدي في المحصلة النهائية لما خلّف من ميوعة وتفتت أخلاقي وتحمّل للإهانة وما ترتب على ذلك من الهجرة المستمرة لمرتين في السنة بحيث لم ينتهِ بعد من الاستقرار حتى يبدأ بالهجرة ثانيةً مع أولادهم الذين أصبحوا خارج التعليم على الاقل لثلاثة أجيال تعليمية. وفي نظري، فقد كانت بمثابة الضربة القاضية في العمق والمستقبل الايزيدي. فعلى الرغم من عدم وجود البديل آنذاك، إلا أن ما تركه من آثار من الوضاعة واستشراء الفساد المادي والاخلاقي ونتائجه الكارثية على المستوى التعليمي للمجتمع الايزيدي لم يكن بالامر الهيّن ولازالت آثارها تستفحل لحد اليوم.
وبهذا فقد أضاعوا عقداً ونصف من الزمن الصعب وساهموا في زيادة رأسمال تلك الاعراب بشكل لم يكن حتى في الاحلام بالنسبة لهم بحيث بنوا الفلل وأقاموا المشاريع وأشتروا الاملاك والبنايات باتعاب الايزيديين، وفي المقابل أضاع الايزيديون مقابل ذلك هذا الزمن وخسروا معه التعليم والفرص الاخرى التي كانت من الممكن ان تنهض بواقعهم نحو الافضل فيما لو احسنوا التعامل مع ذلك الواقع المؤلم. ولكن لا يخفى بأن ذلك المشروع انقذهم من محنة الجوع ولم يكن في اليد بديل عنه في وقته سوى العيش تحت ذلك الواقع وتخطي تلك المحنة في الزمن الصعب الذي مر على العراق، أي ان كل شي بالنتيجة انقلب عليهم وبالا مادياً ومعنوياً كمحصلة نهائية مرغمين عليها.
الوضع بعد 9/4/2003
بعد سقوط النظام، بدأ الانهيار السريع في جميع مفاصل الدولة، وتغير كل شي درامياً نحو الاسوأ. بدءاً بالوضع الامني والارباك الذي حصل في الوضع السياسي وسيطرة الفكر العنصري على الواقع من خلال تنفيذ برامج باجندات اقليمية ودولية بحيث اربكت الواقع المحلي وجعلته يأن تحت ثقل المشاكل من حيث زيادة البطالة وتدني مستوى المعيشة والتعليم والصحة والخدمات البلدية وتفشي الرشوة والمحسوبية والمطالبة بالانفصال والتهديد والتلويح بإقامة دويلات تحت ذريعة الفيدرالية والحديث بالاكثرية والاقلية على حساب الوطنية والواقع وسيطرة المليشيات الحزبية وغيرها من المبررات لتهديم البلد من أساسه.
كل هذا وغيرها من العوامل جعلت من المواطن أن يستكين ويتوقف عن الحركة والاستثمار بترقب. ولا يخفى ما لهجرة أصحاب رؤوس الاموال من تأثير على الذين كانوا قد كونوا علاقات تجارية مع بعض التجار المحليين وبالتالي فإن سيطرة التجار الجدد على السوق ستتطلب من الايزيديين جهوداً وترتيبات إضافية وكسب الثقة لكي يبدأ ويتطور التعامل التجاري من جديد.
ويجب أن نتكلم بتجرد عن كل العواطف وهو أن الواقع الايزيدي شهد التطور الدرامي نحو الاسوأ منذ لحظة أحداث الشيخان في 15/2/2007. تلتها المسالة الاكثر تأثيراً وهي مقتل الفتاة دعاء في 7/4/2007، والتي تم استثمارها سياسياً بشكل غير مسبوق وخاصة من الاعلام والشارع الكردستاني، وما خلقته من المشاكل التي أنسحبت فيما بعد على جميع مفاصل الحياة بحيث شملت الموظفين والعمال والطلاب وحركة المواطنين العاديين من وإلى كردستان التي اصبحت الممر الوحيد والصعب لحركة الايزيديين وبضمنها الحركة الاقتصادية. وتوجت جميع تلك المشاكل التي صبت جام غضبها على المجتمع الايزيدي بهيروشيما سنجار في تل عزير والقحطانية في 14/8/2007.
فبعد هذه الاحداث المرعبة تغير كل شي، فتحددت الحركة وتقلصت فرص العمل، وسيطر الخوف والرعب بعد التهديدات التي تلقوها من القاعدة وعناصرها والمتطرفين الاسلاميين، وانسحب كل هذا بالتاكيد على المناورة بالعمل التجاري والاستثماري ومستوى المعيشة وبقية مجالات الحياة. والاهم من كل شيء هو ما حصل بعد هذه الفترة بهجرة رؤوس الاموال والكفاءات الإيزيدية إلى الخارج وصرف مئات الالاف من الدولارات على تلك الهجرة التي كانت في غالبيتها غير شرعية، مما كلفت العوائل ما لا يحمد عقباها من المصاريف والمخاطر وغدر المهربين.
إذن تغير كل شي نحو الاسوأ، وبدلاً من استثمار الامكانيات الاقتصادية المتواضعة التي كانت موجودة لدى البعض، راحت تصرف تلك الاموال لتهريب ابنائهم إلى الخارج للتخلص من جحيم الحياة التي أصبحت من غير هدف ومستقبل. وهكذا تعرض المستقبل الايزيدي إلى مايشبه المقامرة بحيث أصبحوا من أكثر الفئات التي تعرضت للخطر والانتهاك والتدمير وفي عدد الشهداء والتخلف قياساً بباقي فئات الشعب العراقي على الرغم من أن الجميع قد تعرضوا للمتاعب.
أما فيما بعد أحداث 2007، فقد تجاوب المجتمع مع الواقع الجديد وبدأ يتأقلم معه بعدما أحس بأنه لابد منه. فقام العديد وخاصة في مركز قضاء سنجار وناحية الشمال/سنوني والمناطق المحيطة بهما، وكذلك الحال في بعشيقة والشيخان ببناء وإقامة المحلات والمعارض التجارية، وتجديد العلاقات الإستثمارية مع بعض الجهات بما فيها الدول المجاورة وخاصة سوريا وتركيا والمنطقة الشمالية ونمت الحركة التجارية بشكل واضح ونمت رؤوس الاموال بعدما تحددت حركة الايزيديين وإجبروا على شراء حاجياتهم من نفس المحلات التي يديرونها وهكذا بدت الامور تستعيد بعض عافيتها في هذا المجال الحيوي وتدوير رأس المال في محيط الايزيديين الذي نتأمل منه خيراً. كما أن الجانب العنصري الذي خلّفه الواقع الجديد جعل من الكثير منهم بأن يتجه نحو تدعيم بني جلدته حتى ولو كان في ذلك بعض الغبن في الاسعار قياساً بغيرهم. أي أن الواقع الجديد وتحدد مجال الحركة والمناورة، حتّم عليهم وجعلهم يفكرون بتطوير امكانياتهم التجارية محلياً وأفتهموا الحكمة بالفطرة، وبدون شك فإن هذا الامر سيوفر الإمكانية لدى البعض بارسال أبنائهم إلى الجامعات وبالتالي تطوير مستوى ثقافتهم.
فالمفهوم الاستعماري هو هو سواء طبقته مجموعة بشرية على مجموعة أخرى، أو طبقته دوله معينة على دول اخرى. لأن المبدأ فيه هو استغلال الثروات والامكانيات المادية والبشرية لتلك المجموعة أو الدولة لصالحها وبالتالي تساهم المجموعة أو الدول الواقعة تحت الاستغلال في تخّلف مواطنيها بدرجة أو بأخرى، وهذا ما حصل حقيقةً مع الواقع الايزيدي. فمن حملات الابادة، إلى تحريم التعامل مع المنتوجات، إلى التجميع وترك الاراضي الزراعية وجعلهم تابعين أذلاء يعملون كأجراء في حقول الغير وتحمّل المهانة ونشر الفساد الخلقي والميوعة والتشتت العائلي، إلى التهديد المستمر بتهجيره وتذويبه في جنوب العراق، إلى القتل والتدمير على الهوية، إلى التفجير المبرمج والمخطط بهدف المسح من الوجود وتجريده من إنسانيته، إلى وضعه في إطار لا يتجاوز حدود حركته بضع كيلو مترات وموته اقتصاديا واجتماعيا، إلى إماتة المستقبل من خلال ضرب التعليم بكل مراحله وخاصة التعليم العالي وزيادة جيش العاطلين المعتمدين على الوارد اليومي المهان من الاحزاب السياسية إلى تطويق الكفاءات وإجبارهم على الهجرة. فهل حصل ويحصل كل هذا من غير تخطيط وتفنن في ضرب النهضة التي من الممكن أن تبرز في الوسط الايزيدي؟ الجواب؛ في قناعتي هو، كلا، ولكننا نساهم نحن في تعميقه، مع الاسف.
هذا على المستوى الخارجي، ولكن ماذا عن مساهمة وتأثير الداخل الايزيدي على هذا التخلّف؟ ففي حقيقة الامر لا يختلف هذا العامل في تأثيره السلبي عما ذكر من التأثيرات الخارجية، بل هو الاخطر. فقد ساهم هذا الداخل في التهيوء وفرش الارضية للقبول بالواقع المرير من خلال تكريس السلطة الاستبدادية على مر التاريخ بيد مجموعة من الجهلة لايهمها سوى مصالحها الشخصية والذاتية وسيطرة الفكر العشائري المتخلف، وتقويض دور العلم والتعليم، بإصدار التعليمات وتحريم التعامل مع الانفتاح بسبب الخوف من هذا الخارج المجهول بالنسبة للعامة من الناس وتحريم التعليم في فترة من حياة المجتمع. وبالتالي خلق طوق وهالة حول المجتمع الايزيدي مما حددت من امكانياته وأضعفت من قدراته وتخويفه من اي مجازفة والابقاء على إجترار الموروث المتخلف في القبول والاستسلام التبعية، مما زادت معها مساحة الخنوع والقبول بأقل من القليل من متطلبات الحياة.
إذن، ماذا ترتب على هذا الواقع؟ لقد زحفت التأثيرات السلبية لكلا العاملين الخارجي والداخلي واتحدتا للتأثير على الواقع الايزيدي في الميدان بحيث تحوّل فكر الجهل والتخلف والاستسلام إلى فكر عدواني موجه إلى الذات وإلى الآخر. فتعزز الجانب العشائري وسيطر بعض رؤساء العشائر كلياً على مقدرات وامكانيات الناس واستثمارها لمصالحه الشخصية. وكذلك الاقتتال الداخلي الذي استنزف كافة الامكانيات والطاقات التي كان من الممكن ان تساهم في العمل النهضوي والتجاري وفي التعليم وتنمية الاقتصاد. وهكذا بدأ العد التنازلي في الموارد الاقتصادية فيما بين المجتمع الايزيدي مما وفرت الفرص الذهبية للغير المتربص به لكي تتمكن منه وتقوم بتلك المهمة بالنيابة عنه والامثلة لا تعد في هذا الشان.
فظهرت جماعات تقتل مجموعات أخرى تحت أسم (الجهاد)، واقتصر هذا العمل على بعض العوائل التي كانت تمارس الدعارة بصورة علنية لانها كانت قد وقعت تحت تأثير العوامل التي ذكرناها، تاركين السبب والمسببين لخلق تلك المأساة طليقين مما زاد من تعقيد المشكلة وهروب الكثير منهم خارج المعتقد. وعلى الجانب الثاني ظهرت جماعات لتخريب العقول وتكريس التبعية للعروبة في اثناء الحكم البائد، وآخرين يفسدون العقول بنفس الخطورة تماشياً مع مصلحتهم لصالح القوى السياسية الكردية على حساب المستقبل الايزيدي في الوقت الراهن، ولكن بتفنن وخطورة أكثر دقة، وتخريب مدروس أكثر تعمقاً. وما المؤتمر الذي انعقد في المانيا تحت عنوان "الشيخ فخر الادياني مؤسس مدرسة الفلسفة والادب الكرديين"، إلا دليلاً وقحاً على هذا التخريب في الوقت الذي مئات المدارس تعاني من نقص الرحلات والكادر والمكان المناسب للتدريس.
لذلك لو نلقي نظرة الآن على مجتمع سنجار الذي غالبية سكانه من الايزيديين، فإن عدد المحلات التجارية فيه لا تتناسب مع أي مستوى من نسبة وجودهم في القضاء. وإذا وجد البعض فإن عامة الناس ليس لديها الوعي بأن تتعامل معهم وبدلا من ذلك يتعاملون مع غير الايزيدي والذي بدوره يزداد غنى ونفوذ، ويبقى الايزيدي يجتر الندم من هذا الذي يحصل. بينما نرى العكس تماما على الجانب الثاني حيث العنصرية في أعمق درجاتها ويلجأ لشراء الحاجة من الايزيدي فقط عندما لا يراها في السوق سوى عند هذا الشخص. أو كما يحصل في التعامل مع بعض الحالات التي لا يمكن لأحد منافسة الايزيدي فيها بشكل بارز كالخبرة الزراعية أو البيطرية التي لا يمكنهم الاستغناء عنها، فأنا لست عنصرياً مطلقاً، ولكن الحال يتحدث عن نفسه.
هكذا يحصل الامر في الواقع على الأرض، فليس بالامر السهل التخلص من هذه العقلية والموروث بدون توعية ونكران ذات من قبل الطبقة المتنورة. ولكن نحتاج الكثير لكي نعي دورنا في تنمية قدراتنا ومحاولة التخلص من هذا التخلف وتجاوز نقاط الضعف التي مر ذكرها. فهل نستمر في هذا الطريق المتخلف ولا نتعظ من الاخطاء ونتلافاها؟ وهل يجوز أن نبقى نغرد خارج سرب الحياة ونسمٍع الاخرين احلى الانغام ونصّم آذاننا عن السماع لذلك اللحن الطيب؟ أتمنى من الاقتصاديين أن يسعفونا بالمزيد من التوضيح والمساهمة حول هذا الموضوع. وشكراً

علي سيدو رشو
القاهرة في 8/11/2008

لماذا تخلّف الايزيديون؟3

لم يكن اختيارنا لهذا الموضوع في حلقات إلاّ رغبةً منا في فهم وإفهام تلك الحقيقة المرة التي لازمتنا في ثنايانا، ولم تعد تنفك عنّا وتفارقنا مهما بذلنا من الجهود في الوقت الحاضر. ويجب أن يعرف الاخرون أيضاً بأنهم ليسوا بافضل منا حالاً قياساً بغيرهم، وأن يعرفوا كذلك بأنه لا يوجد مجتمع أو قوم أو شعب متخلف في الاصل. وإنما، التخلف هو حالة نسبية وصفة تنبثق من الواقع المسيطر على قدرات وملكات الأفراد والمجتمعات والشعوب. فبتشديد القبضة على العقل والمبادرات وإخضاعهما لخط سير واحدة رغماً عنهم بحيث لا يمكنهم أن يتخطوا ذلك الحد، عندها يعم الجمود ويشل العقل عن التفكير الطبيعي. وبما أن مسألة التخلف نسبية، لذا فإن مدى تطور أو تخلّف أي مجتمع يقاس بما حوله من التنمية والتطور، وعلى ذلك الاساس يتميز عن المجتمع المحيط به، وبالتالي يطلق عليه التعبير الذي يتصف به ويستحقه. فهو إذن مسألة قياسية وتختلف في بيئة عنها بما موجود في بيئة ثانية، وعلى أساس الظروف والملابسات التي تقف حائلا فيما وراء التخلّف وفي طريق التقدم.
ف للتخلف أسبابه وظروفه وارضيته، وكذا للتقدم والنمو والتطور اسبابه ومسبباته وظروفه. وكحقيقة لا يمكن تجاوزها، فلم نجد مجتمعاً على وجه الارض تقدم خطوة صحيحة عندما يجعل من التعليم أمراً هامشياً ويمر عليه مرور الكرام. فبمجرد البدء بالتعليم بشكل صحيح على اساس المنهج السليم، سوف يكون هناك مجالا للتفكير وقراءة تراث وتاريخ الشعوب والاطلاع على واقع وتاريخ تلك المجتمعات وتقدمها. وبالتالي سوف ياخذ منها العبر ويتداول ويتفاعل مع محيطه من خلال الدروس والعبر المستنبطة من تلك التجارب، ومن ثم يتخطي الحواجز العنصرية والصهر في الخط العام لنمو وتنمية وتطور المجتمعات بغض النظر عن الانتماء.
يمكن ملاحظة بريق هذا المفهوم بشكل واضح في المجتمع الامريكي، وخاصة عقب الانتخابات الاخيرة عندما تجاوزوا اللون والعرق والعنصرية والخلفية الاجتماعية واعتمدوا على الامكانيات وما يمكن أن يقدمه الانسان. فالعنصرية ليست قيمة أصلية في ضمير الانسان، بل إنها إحدى سيئات المسيرة الانسانية وما صاحبها من صراعات على الأرض والثروات والماء. ويمكن التغلب عليها بعقل متفتح واتساع الحوار الديمقراطي وفتح النوافذ والقنوات بحيث أن الحوار الانساني يأخذ مجراه الطبيعي ومداه الاوسع. في هذه الحالة تتحقق لكل المهمشين فرص التعبير الحر وتطفو من بينها العقول التي لها القابلية على تنوير الطريق بشكل أكثر وضوحاً في الاطار المجتمعي المحدود وكذلك في اطار الشعوب وعموم المجتمعات، سواء اختلف هؤلاء المهمشين مع الغالبية الدينية أو العرقية، أو مع القوى السياسية والاقتصادية المتحكمة بالمجتمع بحكم ثرواتها التي جمعتها من قوت الشعب وبالتالي سطوتها على مقاليد الحكم والحياة في البلاد. فوجدنا السود بجانب البيض، والعربي الاصل بجانب المهاجر الاوربي، واللاتيني يشجع الاسيوي الاصل وأن للجميع مسعى واحدة وهي الفوز بفرص الحياة عن طريق هذا الاختيار أعتماداً على البرنامج المطروح.
عندما كتبت الحلقتين الاولى والثانية من، لماذا تخلّف الايزيديون؟ تلقيت عدداً من الرسائل مِن مَن هم من خارج الايزيدية تقول بما معناها؛ جميل أن نسمع منكم هذا الكلام لكي تنشلوا مجتمعكم من هذه الافكار البالية، وكان لسان حالهم يقول بأنكم الوحيدون الذين تعانون من آفة التخلف متناسين تخلفّهنم وبالتالي دورهم في تخلّفنا، وما تقوم به العديد من الجهات بالقتل والتدمير والخراب وتأخير عجلة التقدم. فهم مشكورون في كل الاحوال، ولكن أقولها وبكل اسف بأنه لسنا الوحيدون في هذا الاطار، وأنكم لستم بأفضل منا حالاً. وأن سبب تاخرنا هو المحيط الخارجي المتخلف الذي اتى منكم وأجبر بدوره الداخل الايزيدي على التركيع وقبول التخلف مجبرا وليس أختياراً للقبول به، أو انه لم يكن له ظرف افضل لكي يستثمره ويتجاوز الضعف والوهن. فكيف لشخص معصوب العينين ومقيد بالسلاسل في يديه وارجله أن يبارز في ميدان الركض شخصاً طليقاً وبكامل تجهيزاته الرياضية وقد تدرب على فنون الركض وتحت اشراف مدربين اكفاء؟ وكيف يمكن أن يتطور الانسان تحت ظروف القهر والتهميش والتحقير بتعمد مدروس؟ إذن فالموضوع ليس فقط تهم واتهامات، وإنما له أسبابه ومسبباته الموضوعية المتأصلة في ثقافة المجتمع الذي لا يقبل بالتطور، ومن ثم يحجب فرصة التطور عن غيره.

السبب الحقيقي وراء تخلفنا.
لابد من القول، بل الاعتراف، بانه لسنا نحن المسئولين الوحيدون عن تخلفنا بمقاييس التخلف المعمول قياسا بالطموحات التي نمتلكها كما سبقت الاشارة، بدليل أننا نتقبل التنمية والتشعب في مجالات المعرفة. ولكوننا لانمتلك الامكانية في اختيار المفردات والمناهج واسلوب التعليم، فإننا نخضع لسلوك عام يسيطر فيه الدينين الاسلامي والايزيدي بثقليهما وما فيهما من مجالات الاستغلال لصالح التخلف، وكذلك تأثير العرف الاجتماعي والثقافة العامة على ملكاتنا الثقافية. وأن هذا التفسير لا يعني بأننا يجب أن نقف مكتوفي الايدي تجاه مجتمع عالمي يتقدم بسرعة البرق، ونحن نتخلف عنه بما يساويها في المقدار ويعاكسها في الاتجاه نحو الامام.
إن المشكلة الأساسية هي أن نحدد، من أين تبدأ ثقافة التنمية في المجتمعات؟ فإذا كان المجتمع (والايزيدية كمثال) عموماً يحاكَم على أساس دينه، والفرد في هذا المجتمع يحاكَم على أساس أنتمائه لهذا الدين، والفكر يحاكَم على أساس وجوده في رأس هذا الفرد. فكيف إذن يمكن للفرد (الانسان)، أن يمزق كل هذه الحواجز ليطفوا بكامل طاقته وعافيته إلى السطح ويؤدي دوره الطبيعي؟ وما ينطبق على الافراد هو عينه ما ينطبق على المجتمعات والدول والشعوب. وما يعقّد المشكلة أكثر هو أن القادة والمسئولين يحكمون على الواقع بكل نشاطاته بنفس الروحية والسلوك الذي كان يطبق في ايام المجتمعات الزراعية الاقطاعية ذات الطابع الجماعي مهمشين بذلك دور الافكار والمبادرات الفردية وقتل تلك المبادرات لمجرد أنها جاءت من شخص ينتمي إلى الدين الفلاني أو الطبقة الفلانية أو العشيرة المعينة، أي أن تقييم نشاطات الانسان ومبادراته وإبداعاته كلها تعتمد على انحداره وليس على أفكاره.
فيبدو لي بأن الثورة المعلوماتية والنهضة الصناعية وعصر ما بعد الحداثة لم يصل بعد إلى عقول المسئولين عن إدارة مجتمعاتنا، بدليل أنهم لازالوا يتعاملون مع الواقع بنفس تلك الروحية التي كانت سائدة في المراحل التي كانت تقتل فيها الطموحات والابتكارات تحت حجج الدين والقومية والعنصرية والطائفية، ومن ثم عدم التعامل العقلاني مع الواقع، وبالتالي أتساع وانتشار امتدادات اخطبوط التخلف في أعماق المجتمع مسبباً تأخره. فالخلط بين الدين والسياسة، والربط بين القومية والدين، وشد العشيرة بالعرق، وإلحاق الخير بالشر وتفضيل الطالح على الصالح لاعتبارات نفعية وغيرها الكثير جعلت من ثقافة هذه المجتمعات لا تقبل بالآخر وبالتالي قتل حرية الفكر والمبادرة والطموح. فليس للفرد في ظل مجتمعاتنا حرية اختيار العمل والطريقة التي ينمي بها افكاره مما يجعل منه كالآله في قالب معين لا يستطيع ان يتحرك خارج المرسوم لكي لا يتهم بما لا يسر.
بعد إعتناقه الإسلام ودراستة بتعمق، أصدر المفكر الفرنسي الشهير روجيه غارودي كتابه "وعود الاسلام"، التي رد فيه على الاتهامات الغربية للإسلام وتوصل إلى حقيقة السبب الاساسي لتخلف المسلمين وهو "العقول المغلقة". وبنى فكرته على نجاح المسلمين في بداية الاسلام إلى استيعاب وادماج افضل مافي حضارات الشعوب الاخرى إلى حضارته وقبولها بفكر مفتوح ولم يغلقوا الباب بوجهها ولم يرفضوا التجديد بل زاد بينهما الاخذ والعطاء والتفاعل الايجابي. لذلك رأى بأن على المسلمين اليوم أن يتعاملوا بعقلية متفتحة مع المعطيات والانفتاح على الحضارات الاخرى قبل الانفتاح الاقتصادي لأن العقل المغلق بحد ذاته هو عقبة تحول دون التقدم في أي مجال وتؤدي إلى الجمود العقائدي والسياسي والثقافي.
لقد كنا ولازلنا نعيش، كإيزيديين، في ذلك الوسط منذ ذلك التاريخ الذي كان فيه الاسلام منفتحاً على الآخر، ولم نزل كذلك لحين أن أنغلق على نفسه. وكان من الصعب علينا بالانفتاح وقتئذٍ بسبب الدعوات الاسلامية بأسلمة الشعوب ونشر الدعوة الاسلامية للشعوب والاقوام التي كانت خارج الاسلام في المنطقة والتي نالت منها الايزيدية القسط الكبير، فكيف الحال بعدما أنغلق على نفسه؟. فالتاريخ الايزيدي مليء بحملات الابادة التي كانت تعبر عن حقد أعمى وكانت معضمها تفعل كالنار في الهشيم وحصدت مئات الالاف في ذلك الزمان لا لشيء سوى للرفض في الدخول إلى الدين الجديد والاحتفاظ بعقيدتهم. فبالإضافة إلى الطوق الفكري الجامد الذي فرضه المسلمين على أنفسهم، أصبح تاثير ذلك الطوق بحكم التعايش في نفس الوسط متعدد الحلقات حول العنق الايزيدي وبدأ بخنقه شيئاً فشيئاً مما زادت مع الزمن صعوبة التخلص منه كواقع حال، وازدادت العزلة وزاد معها سمك الطوق بزيادة الاضافات من الداخل الايزيدي.
فبعد الانحصار الاجتماعي في المناطق النائية والجبال للهروب من الحملات غير المتكافئة والابادة الجماعية التي كانت لاترحم بكل المقاييس، عانى الايزيديون من التقوقع والدوران في بيئة وفراغ بدأ يلعب فيها (الدين)، رغم الجهل به، منها الدور الاعظم في الحكاية والوعظ والنصيحة والابتعاد عن التعليم ليس كرها وجهلا بأهميته بل خوفا من الذوبان والضياع في الآخر. فأصبحت الحياة تدور في مساحة ضيقة لا تتعدى حدود المنطقة الجغرافية التي كان يعتمد فيها على الطبيعة في تلبية حاجاته من المأكل والملبس وضرورات الحياة، وقد لمسنا وعايشنا البعض من تلك الصعوبات في خمسينات وستينات القرن الماضي، فكيف يمكن تصوّر الحال في زمن ماقبل خمسمائة سنة من الان؟
فأصبح أكل الخس، والتلفظ بالنعل واللعن ومشتقاتهما، ودخول الاماكن العامة كالمرافق الصحية والحمامات، واللون الازرق، والتغيب عن البيت لأكثر من مدة معينة، وحلق الشنب وعند بعض العشائر حلق شعر الرأس، والاغتناء بالتجارة وجمع المال، والنظر إلى وجه المرأة غير الايزيدية، وحتى التمشيط بمشط غير الايزيدي. كلها بدت من المحرمات بناءً على ماجاء في المذكرة التي قدمها رؤساء الايزيدية إلى حكومة الاستانة بواسطة المشير رؤوف باشا والي بغداد في 28 شباط 1872، ليتخلصوا من الجندية ( ينظر اليزيديون في حاضرهم وماضيهم، عبدالرزاق الحسني ص 101).
على الجانب الثاني رفع المجتمع من درجة الغلو في مدح الاولياء والصالحين لدرجة الالوهية وخلطوا الدين بالعادات الاجتماعية والاداء الفلكلوري وكأنه يكمل أحدهما الاخر، وبلغت درجة ترابط الدين بالعادات والتراث حداً لم يعد من السهولة التمييز بينهما وبالتالي من الاصعب انفكاكهما عن البعض. بل أصبح التقرب من التلاعب بتلك التراثيات من الكفر والخروج عن الدين والتي بمرور الزمن اضافت الاتعاب على ما كانت موجودة، وزادت من تفاقم المشكلة. فالذي ترتب على كل هذا، هو سهولة وامكانية التلاعب بها وقولبتها حسب الاهواء والمصالح النفعية والشخصية وكما يحلو. فحصل في السابق بكون الايزيدية من أصل العرب ومن لب قريش وبالتالي تحسبوا عربا بناءً على بعض الاجتهادات والمصالح السياسية، وكان ذلك بالطبع على حساب الدين. واليوم ما يحصل هو امتداد لنفس المشكلة ولكن بطريقة أكثر خطورة وأعمق تأثيراً في تكريد الدين والحفر في الاعماق بحيث مالم يكن كرديا فهو ليس من الدين. ولهذا فإن التلاعب بمقدرات هذا المجتمع اصبح من اسهل الممكنات بحسب ما تقتضيه مصلحة هذه الجهة السياسية أو تلك.
إذن يمكن تصور سمك الطوق الذي فرضه رؤساء الايزيدية حول مجتمعهم داخل الانغلاق السابق الذي فرضه الخارج المسلم نتيجة لإبعادهم عن المشاركة الايجابية، وبناء حواجز من الصعب تجاوزها مع غير الايزيدية خوفاً من الذوبان فيهم. وكذلك رفضهم للدعوات الاسلامية بتغيير عقيدتهم أثناء تلك الحملات التي زادت من التباعد وعمقت المأساة والعداوة.
ولقد صوِرت تلك العريضة فيما بعد في إطار ديني بحت لأنهم غالوا في الوصف وربطوا كل صفة وتصرف بالدين مما اعطت صورة سلبية جداً فيما بعد عن هذه الديانة ولم يعد الانفكاك منها بالامر اليسير. والامر الآخر المهم هو أنها أصبحت من المصادر التي تعتمد لانها أعتبرت وثيقة رسمية وتناقلتها الالسن في المحافل الرسمية وتوسعت مساحة انتشارها مع حجم الفتاوى الدينية التي كانت تسبق حملات الابادة التي ساهمت بفعالية كبيرة في نسج الصور الغريبة والخيالية حول المجتمع الايزيدي وديانته واتهمت بالزندقة تارة وبالارتداد عن الاسلام تارة أخرى.
فمن طبيعة وتدقيق تلك العريضة يمكن فهم الواقع آنذاك ومدى ومقدارالجهل بالآخر، وحجم التخلّف السائد في الوسط الاجتماعي والرسمي بكامل فئاته وطبقاته ودياناته. وكذلك حجم التخلّف الذي كان يكتنف الجميع بدون استثناء بحيث أن تلك العريضة تناقلت على الالسن وأعتبِرت من قِبل الجميع، وفي جميع الاوساط بما فيهم الباحثين. ولم يتم تكذيب ما جاء فيها بسبب قوة الخرافة التي نسجتها حول الايزيدية، ولِما كانت تكتنف الديانة والمجتمع الايزيديين من غموض، بحيث اصبحت مع الزمن من المسلمات، والقبول بها من قبل الباحثين تعد من المسلمات الاساسي،. بينما كان الهدف هو عدم الانخراط في الجندية. ويجب أن نذكٍر بأنه ليست تلك العريضة هي السبب في استمرار حملات الابادة بشكل مستمر بدليل أن الحملات كانت مستمرة منذ عهد الخليفة عمر بن الخطاب. ولكنها نسجت هالة من الخرافات حول الديانة الايزيدية والتي اصبحت فيما بعد مصدراً هاما للكثير من البحث والاستقصاء وساهمت بشكل وآخر في تعميق التصور السلبي وبالتالي تشجيع الفتاوى والانتقام. فمنها بدعوى سياسية وثانية تحت مسمى العصيان وأخرى تأديبية، ولكن الهدف الاساسي منها جميعاً هو احتوائهم في الدين الاسلامي. ويجب أن لا ننسى الدور السلبي للكتّاب والباحثين في تعميق المشكلة لكونهم اعتمدوا على النقل الشفاهي، أو اتخذوا من عدم نزاهة البحث العلمي سبيلا في الوصف والتوصيف.
فأملنا كبير بعد هذا الزمن والعيش المشترك في صنع الحياة أن يغير الآخرين من نظرتهم عن هذه الديانة والمجتمع الايزيدي وينظر بحقهم، وبقائهم كلوحة تراثية، وبإنسانية إنسانهم، والانتباه إلى امكانياتهم واستثمارها بشكل صحيح ليضيفوا إلى التراث الانساني ما مطلوب منهم من مقدار وحجم وامكانيات.. ومن التوفيق

علي سيدو رشو
القاهرة في 22/11/2008

ali@yahoo.com

rasho


لماذا تخلّف الايزيديون؟ 4
في هذه الحلقة نود أن نركز على دور رجال الدين بشكل أساسي في هذا الشان لما له من علاقة مباشرة وتأثير فعّال على هذا المنحى. من الطبيعي أن تكون جميع الادوار مهمة ومتداخلة سواء ما كان يتعلق منها بالفترة الزمنية أو بالاشخاص المسئولين كل حسب دوره ووظيفته وأمكانياته وتأثيره في المجتمع، أو بالظرف السياسي السائد في فترة معينة بذاتها. ومن الطبيعي ايضاً أن يكون هذا التأثير مرتبطاً بالفترة التي تلعب فيها تلك الشخصيات دورها الحيوي نظراً للتغير الحاصل في المسيرة الانسانية والتقدم التكنولوجي والتطور الفكري والظرف الذي يلعب فيه الشخص المعني من الدور في التغيير.
فلا يمكن إعفاء رجال الدين من التسبب في هذا التخلّف الذي اصاب المجتمع الايزيدي وعلى جميع المستويات وفي كافة مراحله التاريخية، بالاضافة إلى العوامل الاخرى السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية. من المعروف أن مهمة رجال الدين تنحصر في الغالب على الوعظ والتوجيه والارشاد وإشباع فكر الانسان بالجانب الروحي بالتوازي مع الجانب المادي لخلق حالة من توازن الشخصية فيما بين الحاجات الروحية والمتطلبات المادية والامور الحياتية الاخرى، وبالتالي خلق مجتمع يسوده الهدوء والرزانة وأقل مافيه من الجريمة. فماذا لو أهمل رجال الدين واجباتهم الاساسية وآنشغلوا وأشغلوا الاخرين في الامور الهامشية وتركوا رسالتهم الاساسية وهي تنمية وتطوير العقيدة والفكر لتلائم متطلبات العصر والمنطق وبدلا من ذلك ركزوا جهودهم في مقاومة أي تجديد ومحاربة الافكار التي تدعوا إلى التنوير والتحديث قائلين بأن هذه من البدع التي يجب عدم القبول بها؟
لقد رأينا ما فعلته أقوال سماحة بابا شيخ أثناء مقابلاته مع بعض الصحف الكردية، وكذلك قوله قبل سنوات من أننا لا نغتسل اربعون يوما وهو كان يقصد معنىً غير تلك التي تم تفسيها. ورأينا كيف تم تحوير الكلام في غير ما قصده سماحته، وتعدّى الامر المرجع الديني إلى عموم المجتمع وأتهامه بالتخلّف، وفي حينه أخذ قسطاً كبيرا من الاعلام والفعل ورد الفعل. هذا يعني بأن لرجال الدين الدور الحيوي في جلب الانتباه وبالتالي وضع عموم المجتمع في حرج وأمام مشكلة قد يترتب عليها موقف غير محمود. فعلى الرغم من أن تلك الدعوات لم تكن فتاوى، إلا أنها فسرت في هكذا إتجاه وجلبت الكثير من المشاكل والنقاشات بقصد التشويه وكأنهم لم يشبعوا بعد من إلحاق المزيد من الاذى والتحقير.

موقف رجل الدين:
من الممكن هنا تفسير دور رجل الدين على أكثر من صعيد. ففيما يتعلق بجانب الخارج الايزيدي، لم يكن لرجال الدين القدرة على احتواء المواقف ومواجهة الاسئلة التقليدية من الوسط الخارجي والشارع المحلي ومجابهة فلسفة التفسير الديني بعقلانية وواقعية وإحداث قناعة في فكر المقابل إلا ما ندر، وخاصة مع الباحث العلمي والاجتماعي عن الحقيقة والقيمة التراثية التي يتمتع بها الايزيديون. وان هذا الامر زاد من تعقيد الموضوع، خاصة إذا ما عرفنا بأن غالبية رجال الدين الايزيدي هم أشخاص أميون ولا يتقنون اللغة العربية، ولم يكونوا قد تخرجوا من كليات علمية أو قد درسوا اللاهوت أكاديمياً وبالتالي فإنهم يمتلكون قدراً ضئيلاً من المعلومات التي يتمكن بواسطتها من الدفاع عن نفسهم ودينهم، ولكن سيبقى ينظر لهم على أنهم هم المسئولين عن هكذا مطلب. وفي الوقت نفسه يعتبرون أي دعوة تطوير او تجديد من قبل المتنورين ورجال العلم والفكر هي تهديم للدين وتهديد لكيانهم. فبدلا من أن يطوٍروا أنفسهم ويوسعوا من مداركهم، حاولوا أن يكرسوا من التخلف والابقاء على مجتمع يجتر العادات والتقاليد البالية وربطها بالدين لكي يبقوا على تخلفه وبالتالي سهولة انقياده حسبما تتطلبها مصلحتهم الشخصية، معتبرين أن الانسان الذي ينطق بالتقدم والتطور من الخارجين على الدين.
على الجانب الاخر لم يكن نفس الرجال بقادرين على إقناع الداخل الايزيدي بتفسير ما يرد في النصوص الدينية، وفي أغلب الاحوال كانوا يتهربون من الاسئلة التي توجه إليهم من قبل الشباب والاجيال الناهضة، بل ويبخونهم على أن تلك الاسئلة هي من قبيل الاحراج وعليهم أن لا يسألوا فيما ليس لهم فيه. وبذلك قاد هذا السلوك النافر من رجال الدين إلى نفور البعض الكثير وخاصة من الشباب الجامعي وبعض الاشخاص المتنورين، وقد حصل تمرد البعض من الشباب لكونهم لم يحصلوا على قناعات شافية من رجال الدين في تفسير ما يجب، والتي قادت إلى إحداث نوع من الشك في نفس الانسان. وأن هذا الشك قاد إلى خلق الفتور في العلاقة فيما بينهم واصبح الدين نفسه هو الضحية الاساسية لهذا الإختلاف غير الواعي.
فلو أرجعنا المشكلة إلى أصلها، يجب علينا أن نكون واقعيين ولا نقفز فوق الحقائق، ويجب أن لا نطلب من تلك الشخصيات تفسير كل ما يرد في النص الديني. لأنه وبكل بساطة فإن هذا هو حال بقية الاديان أيضاً. فالتفسير ليس بالأمر الهيّن، وخاصة في هذا المرفق لكون أن النص الديني يحمل الكثير من الاوجه، ويجب أن يكون المفسٍر ملماً بعلوم اللغة والنحو والصرف لكي يعطي للتفسير مكانته وحماية النص والكلمة من التداخل والغشاوة. فيوجد في الاسلام والمسيحية فقهاء ولهم كليات ودراسات عليا وجامعات متخصصة في دراسة الفقه والتفسير ومع ذلك يقع البعض الكثير من المفسرين في حيرة أمام الكم الهائل من الاسئلة والمواقف التي أحدثتها العولمة وعوامل التطور والتنمية البشرية. فليس من الحكمة والانصاف أن ينصب كل اللوم على كاهل رجل الدين، ولكنه هو الذي جلب لنفسه هذا الكابوس عندما أدعى بأن على رجل العلم أن لايتدخل في الشأن الديني وبالتالي تحمّل هو بذاته مسئولية فشله وتبعاتها في هذا الموضوع. ولكي يكون مؤهلاً لتبوء المركز الذي سيشغله، عليه أن يتسلح بالفكر الديني المسند إلى التفسير وبالتالي قادراً على مواجهة الجميع ولو بالحد الادنى من الإقناع.
لذلك، نأمل بأن يتسع صدر رجال الدين للنقاش والاخذ بالاراء والتفاعل معها واحترام الاراء المختلفة والمتخالفة بهدف إنضاج المواضيع بصورة اكثر واقعية مع الحفاظ على الاصل، ويعلموا بأن التطور سيفرز الكثير من المواقف التي قد تبدو غريبة وغير مطروقة من قبل. وفي قناعتي فإن المجلس الروحاني هو المسئول الاول الذي يتحمل الوزر الاكبر في هذا الموضوع لكونه جمع بين الدين والدنيا، ولكنه لم يوفّق في أيٍ منهما، وكذلك لم يعرف كيف يفرق بين ما هو مطلوب من رجل الدين وما مطلوب من رجل العلم. وكجزء من مسئوليتنا التاريخية، نبهنا المجلس بأهمية هذا التحرك عندما كنا جزءً منه وطرحنا جمع وتدوين النصوص ومن ثم توحيدها وتفسيرها من قبل باحثين متخصصين للحفاظ على أصالته من التشذي والتشويش والضياع. فالاختلاف في تفسير النص الديني وارد جداً وهو دليل حيوية وقدرة على التعامل مع النصوص، وسيساعد رجل الدين في تسهيل مهمته التي يتمكن بالتالي من المجابهة لأي تساؤل.
وبدلا من أن يحدث رجل الدين القناعة في فكر كل من المواطن البسيط والمتنور، دارت العملية عليه بالعكس. مما جعل من المواطن أن يفقد الثقة برجل الدين وبالتالي بالدين نفسه بسبب فشل رجل الدين في تحصين نفسه، وتحمله للمسئولية كاملةً كونه غير مؤهل لتحمّل تلك المسئولية. فمضى كل فريق فيما هو مقتنع به، ولم يضع أحدهما حداً للاخر بإحداث قناعة راسخة في أنه احق من الاخر، ومما رسخت من هذه الفكرة هو أن أمور الدين هي من واجبات رجال الدين وحكراً عليهم وحدهم، وأن أي تدخل في شأنه من قبل رجال العلم يعد تجاوزاً للخطوط الحمر التي يجب مقاومتها بدافع الحفاظ علية من الحداثة والتغيير. ولهذا، وعلى الرغم من أن الدين ليس قالباً جامداً، فإنهم حكموا عليه بالجمود وقيدوه بالسلاسل، ووضعوه في الاطار المحدد وأعتبروا أن أي خروج عن افكارهم أو تفسيرهم هو من صنع الواقع ويحمل بذور الفساد الفكري وهي بالتالي بدع يجب محاربتها وعدم السماح لانتشارها.
إذن، ما هي انعاكاسات هذه الاحوال على الواقع؟ وكيف ضاعت رهبة الدين في تصرفات رجال الدين؟ وما هي نظرة عامة الناس لرجل يحمل الصفتين في نفس الوقت ويوما بعد يوم يظهر بأنه غير مؤهل لحمل أيٍ منهما؟ وهنا ليس المقصود من كلامنا هذا هو الحط من شأن الانسان، ولكن لكون تاثير هذا الفعل يتعدى حدود الاشخاص ويترك من الاثار التي قد تجلب الدمار لمستقبل القوم بالكامل. فرأينا مثلاً سمو الامير يصدر فتوى بتحريم شخص أو مجموعة أشخاص لسبب قد لا يستحق لهذا القدر من الفعل، ومن الممكن إيجاد حلول بسيطة بدلا من اللجوء إلى ذلك الاجراء القاسي. بل قد يرتد الفعل على الامير نفسه فيما إذا لم يحسن التصرّف مع الحال، في الوقت الذي ليس من اختصاصه أن يصدر الفتاوى. فالفتاوى في الاسلام اليوم تهدده بالكوارث لكونها غير مدروسة وتصدر من جهات ليست مخولة بإطلاقها وبالتالي تحدث جدلاً واسعاً وتأخذ الكثير من الوقت والجهد والمال. بل تحدث خللاً نفسيا واجتماعياً وأخلاقياً للمواطن المسلم السوي، وتنعكس بالنتيجة على الدين ورجاله وتعليماته بطريقة أو بأخرى.
لذلك، أملنا كبير بأن يكون الاقتداء بالاخيار الاوائل والصالحين الذين قادوا وهادوا وأدوا الامانة بإخلاص وتفانِ، ولكننا نقول بأن النقطة السوداء في الثوب الابيض تعيبه، وأن الاصلاح الديني يبدأ برجال الدين، فإذا صلحوا تصلح عامة الناس، وأن تاثيرهم كبير جداً بشقيه السلبي والايجابي. ومن الله التوفيق.

علي سيدو رشو
القاهرة في 26/11/2008
rashoali@yahoo.com

لماذا تخلّف الايزيديون؟ 5-1
المثقف السلبي ودوره في تزييف الواقع.
لكل مجتمع على وجه الارض حيثياته وعيوبه ومشاكله الداخلية الخاصة به، وأخرى المرتبطة بالعالم المحيط بدرجة أوبأخرى تحددها المصالح المشتركة، ومهما كانت قوة ومصادر المشكلة الخارجية كبيرة وفعالة، فإنه يمكن التعامل معها فيما لو تم تشخيص عوامل الضعف وتحسين الجبهة الداخلية في المجتمع المعني بها. فمثلا، إذا نشب خلاف بين مجتمع وآخر على مسألة حدودية أو جريمة معينة او خلاف عقائدي أو سياسي، فمن الممكن رص الصفوف من الداخل ودراسة الحالة من جوانبها المختلفة ومن ثم التوصل إلى قناعات بحلها بناءً على المعطيات على الآرض، والأهم من كل شيء هو عمل خطاب موحد من قبل المثقفين المتنورين لافهام المقابل بأن جبهته موحدة بمطاليب واقعية ومقنعه وستؤدي إلى الحلول التي تحقق لكل طرف مستحقاته.
على الجانب الثاني فإن المشكلة سوف تتفاقم وتتفاعل داخلياً وترتد سلباً إذا لم يتم التعامل معها بدراية وبشكل خاص إذا ما شاركت الفئات المثقفة في صنع الخلل والضعة وفتحت الثغرات في الجدار الداخلي. وما أقصده في هذا المجال هو مدى مساهمة المثقفين في صنع التخلّف وتفعيله وزيادة مساحة انتشاره في الوسط الاجتماعي. فالمثقفون في المجتمع الايزيدي شاركوا في صناعة التخلّف، وبالتالي أصبحوا هم ضحايا التخلف الذي صنعوه بأيديهم. فهم خطوا بخطوات حميدة في بداية الامر وسعوا وأسسوا مثاباة يعتد بها كمركز لالش الذي خطا هو الاخر خطوات مباركة في بدايته، ولكن أختلف الامر بعد الاحتلال مباشرةً وتراجع الجميع إلى الوراء، بما فيهم المركز بسرعة أكبر من تلك التي خطوا بها نحو الامام. أي أن المثقف الايزيدي تخلّف كثيراً عندما وجهّت الاحزاب السياسية (الكردية تحديداً)، أمكانياته باتجاه محدد ومرسوم مسبقاً وبالتالي سلبت إرادته مستثمرين ثقافته لتطويق فكره وفكر الاخرين بالمزايا المادية والوظيفية، بدلا من أن يستثمر هو/هم أمكانيات الحزب لتنمية وتقدم وتطوير أفكار الاخرين. كما هو الحال في أيام حكم البعث عندما تم تسييس الثقافة والمثقفين بما فيها الجامعات والمراكز البحثية والجيش والشعب لخدمة الحزب والقائد الاوحد، وهم الآن يؤدون نفس الدور ويلعبون في نفس الملعب. ولكن يجب أن لا ننسَ دور الخيّرين منهم والذين واجهوا المتاعب والاتهامات بالرغم من أنه فرض على أفكارهم النسيان والتسويف، مع الاسف.
مقابلة رئيس الجمهورية.
عند عودتي من مقابلة الشيخ غازي الياور، أول رئيس لجمهورية العراق بعد الاحتلال ضمن وفد شيوخ العشائر الايزيدية بتاريخ 12/10/2004، عاتبني أحد المثقفين الايزيديين وقال؛ لقد شعرت بالحزن عندما رأيتك ضمن هذا الوفد من المتخلفين لمقابلة رئيس الجمهورية. قلت له جميل أن أسمع رايك في هذا ولكن لنناقش الامور بعقلانية وواقعية وهدوء وقلت، ألم يكن رئيس الجمهورية واحداً من شيوخ العشائر؟ فهو يلبس نفس ماهم لابسون، وهو من نفس المنطقة والواقع العشائري، وأن شيوخنا لم يقلوا ثقافةً منه فيما لو توفرت لهم الفرصة مثلما توفرت للشيخ الياور مع جل احترامي لمقامه ومركزه الذي أكن له كل الاحترام (بدا لي بأن الزميل كان يحكم على الوفد من خلال العقال والعباءة واللبس العربي). ثم قلت؛ لنكن واقعيين، فإن طبيعة مجتمعنا هي طبيعة عشائرية، ولو تركت العشائر على ثقافتها بدون تدخل السياسة، فستجدها في وضع غير ما تراها الان، لانها تتمتع بقواعد سلوك والتزام تصل في بعض الاحيان إلى مستوى أجهزة الدولة في ضبط السلوك العام وحل النزاعات في المناطق التي (يحكمونها). وقلت له أنت إنسان مثقف وكان شيخ عشيرتك من ضمن ذلك الوفد، وسوف أسالك سؤالاً ارجو الاجابة بصدق، فقال بكل تأكيد، قلت له: أفرض أن سائق سيارة من تلعفر دهس طفلا من عشيرتك، فهل يسالون عن الطبيب أو المهندس أو المدرس أم سيسألون عن شيخ العشيرة في حل المشكلة؟ قال، يسألون عن شيخ العشيرة؛ فقلت له لماذا لا تذهب وتقول لهم بأن هذا الشخص متخلف ولا يستطيع حل المشكلة وتقوم أنت بذلك الواجب وتنهي المشكلة؟ قال كيف لي أن أعمل بدلا عنه وهو أقدر مني في هذا الشان.
في مقام ثانِ وعندما التقيت السيد فؤاد معصوم في تموز 2004 ، قال؛ في الحقيقة اعطينا الدور البارز في أختيار الذوات الذين سيمثلون نواة الجمعية الوطنية للعشائر العراقية، وهناك خطاً أحمراً من قبل الاحزاب السياسية في هذا الشأن لانستطيع تجاوزها. عند ذلك قلت له، وماذا عن دور المجتمع المدني والمثقفين والتكنوقراط؟ انتفض الرجل بوجهي وقال: كفوا عن هذه المثاليات! متى كان للمثقف دوراً في سياسة العراق؟ فقلت له، أرجوك أن تفكر فيما تقول وأنا لم اقطع مسافة 400 كم لكي أسمع هذا الكلام من رأس المجلس الذي سيمثل الشعب، وقلت له؛ لماذا لم يتم تكليف شخص من عامة الناس بدلا عنك في هذه المهمة؟ وعلى أي اساس تم اختيارك لكي تطعن بدور المثقف؟ عليه سيكون مصيرنا هو الذي قادنا إلى الخراب الذي نحن فيه الان وانتهى اللقاء. لاحظوا حجم الخراب، وحجم الدور الذي يلعبه المثقف الذي يفكر بسلبيه.
لذلك أقول بأننا دوما نقفز فوق الحقائق ونشجع الباطل على حساب الحق، ونلوم الاخرين دون أن نرى مافينا من عيوب، ونعيبهم على مواقف بينما فينا أقبح مما فيهم من عيوب. فبدأ النظام السابق بالاعتماد على العشائر في أول ايامه، ثم منع اللقب العشائري بعد فترة ومن ثم عاد وشجع من تعزيزها عندما اندلعت الحرب مع أيران. وهكذا اليوم، فجميع الاحزاب السياسية والمرجعيات الدينية والسلطة التنفيذية تناغم العشائر، وكل على طريقته لكسب ودها والفوز ببركاتها في الانتخابات المقبلة، لذلك لا يمكن إهمالها. فالمجتمع بشكل عام يريد التحرر من السلوك العشائري وسيطرة الشيوخ عليهم، ولكن يجب أن يكون هناك ما يطمئن المواطن بالبديل عن هذا الترابط العشائري بالشيوخ وأن ياخذ القانون بحقه فيما إذا تعرض لضرر بدلا من اللجوء إلى رئيس العشيرة في الأخذ بحقه. أي يجب على أجهزة الدولة توفير البديل الصحيح للعشائرية لكي يسهل فك الارتباط النفسي والقيمي والسلوكي للمواطن، أي يكون ولاءه للدولة بدلا من أن يكون للعشيرة.
فلنسأل؛ الم تكن الاحزاب الكردية على دراية بخلفية رؤساء العشائرية الايزيدية والجرجرية والشبك وغيرهم كيف كانوا في زمن النظام السابق؟ ألم تكن على دراية بشيوخ السورجية والزيبارية والهركية والريكانية عندما كانت تقيم الولائم بمناسبة عيد ميلاد القائد الميمون وهم آمري الأفواج الخفيفة وكل شيء موثق بالصورة والصوت؟ ألم تقع أيديهم على جميع الملفات السرية لأمن الدولة ونشروا أسماء الجميع في الصحف كمجرمين؟ لماذا يفضلونهم الآن على المثقفين؟ لماذا يكبلون المثقف بالسلاسل ويحطمون أمكانياتهم ويدعمون تلك الشيوخ بدلا من محاسبتهم؟ ألم تكن القيادات الشيعية والسنية على علم بنفس الحالة بالنسبة لشيوخها؟ هل استطاعت جهود الدولة والامريكان بكامل قواتهم وجبروت الدولة بقواتها العسكرية من إنهاء دور القاعدة في الانبار بدون ألأعتماد على العشائر؟ لماذا نهرب من أنفسنا وأخطائنا ونُلبِس غيرنا ثوباً من المفروض أن نلبسه نحن؟ فليس الذي أقصده هو قناعتي بإعطاء الدور للعشائر في قيادة المجتمع، ولكن هنالك خللاً في كيان الدولة يفسح المجال ويعطي الدور للعشائر على حساب المثقفين، فهي التي تدعي بالتقدمية والحرية والديمقراطية، ولكنها تغالط نفسها كما نفعلها نحن مع أنفسنا، وكلنا كذابين ومنافقين بحق البعض الاخر.
صراع الادوار
في مقال تحليلي للسيد سمكو حراقي بتاريخ 27/11/2008 على صفحة بحزاني نت، يعاتب فيه المثقفين والسياسيين الايزيديين لكونهم تركوا واجباتهم ولم يعد لهم وجود على الساحة كما كانوا في النقد والتحليل والتعليق سواء باسماء صريحة أو مستعارة. وأقول تعليقاً على كلام أخي سمكو بأن الذي يلعب الدور هنا هو الايمان بالموضوع الذي كان يدافع عنه. فالايمان بالقضية- أي قضية- هو الذي يدفع بالكاتب على الاستمرار بدون ملل، بل قد يصل به الامر للتضحية من أجلها، وإلاّ فهي ليست أكثر من ركضة خيل الشرطة في بداية السباق أو الكتابة من أجل منفعة معينة تنتهي حيث تنتهي تلك المصلحة. فلم يعد سهلا لكي يستمر الانسان في مسيرة صعبة وشاقة ومتعبة في ظروف لا تعرف فيها مَن هو عدّوك. فهناك القسم الذي أراد أن يبرز امكانياته وهذا حق طبيعي، وآخر كان مدفوعاً من جهة معينة، وثالث كان صادقاً ولم يجد ما ينفع في الاستمرار. وكحال أية مسيرة، فإن الكتابة في الامور الثقافية والسياسية والفكرية ليست أمراً عادياً، خاصة عندما تصطدم بواقع جاهز من التهم الكيدية المدعومة بالقوة العسكرية الفنية على أرض الواقع في ظل أوضاع مرتبكة ومصالح متشابكة كما لو أنك تتعامل مع مجتمع الغابة. فتراها تتعرض للنكسات والعقبات والتحديات، ولكن للحقيقة رايها، وهي ستبقى تحفر دورها في الحياة ولا تهمل ما يجب أن يحصل حتى وإن تاخر عن موعده.
فلم يعد حالياً للمثقف الايزيدي تأثيراً كبيراً على حركة المجتمع، ليس لأنهم غير قادرين على التغيير، ولكن لكونهم مكبلون بالقيود. فهم معزولون، ويعيشون بين فكي كماشة النخب السياسية التي تنظر إليهم نظرة عدم أحترام وازدراء، وبين المجتمع (الرافض) للأفكار والمبادرات. وبذلك ظهر المثقفون المزيفون المنافقون الذين يشاركون تلك النخب المزيفة في تزييف الواقع، وبالتالي تلهية الناس عن الخروج من النمط المرسوم بتعمد عن التطلع والمشاركة في عصرنة البناء القائم على الايمان بحقوق الانسان وكرامته، وبالعلم والمعرفة. وبالنتيجة، فأصبح المثقفون الحقيقيون مشاريع ريبة وشكوك وأتهام من قبل السلطات السياسية المتخلفة، ويساعدهم في ذلك المثقفين المزيفين وقادة الفكر الديني المتخلف لكي لاتنكشف عوراتهم وحقيقة خداع دعواتهم للرأي العام.
فالمثقفون الحقيقيون يدعون دائماً إلى تنوير الفكر، وتطوير الواقع، وتحريك السكون، وإزالة الغموض عن المستور، وتعريف الناس بما يدور في الخفاء، ودعوتهم إلى مقاومة الاخطاء والمخطئين، ومحاربة الفكر الظلامي المتخلف، وتعرية الفساد والمفسدين، وتنمية دور الفئات المهمشة، وزيادة حجم المشاركة في النهضة الاجتماعية. وبذلك فإنهم حتما سيجابَهون بكم هائل من التحديات وبدلا من أن يساندهم المجتمع في مسعاهم، وضعهم في موضع شك والدفاع عن أنفسهم لما يتلقون من الضربات السبع والسهام المسمومة من السياسيين الزائفين لكي يكفوا عن توعية المجتمعات. ومن المتخلفين المحسوبين على الدين بدعوى أن هؤلاء المثقفين يريدون إدخال الافكار الغريبة في فكر المجتمع. وعلى هذا الاساس فقد بات المثقفون الحقيقيون في حالة من الخوف والرعب في الاعلان عن افكارهم في النقد والانتقاد وانطووا على أنفسهم وانسحبوا من الساحة مرغمين، فاتحين الطريق أمام التخلف والمتخلفين يلعبون في الساحة بما يحلوا لهم.
إذن، ماذا يمكن أن يترتب على تطويق المثقفين الحقيقيين وحجب دورهم الريادي؟ فالفكر الظلامي المتخلف والتسلط والفوضى هي التي ستسود على حساب التنوير والتقدم والحرية وحقوق الانسان. وسيدور المجتمع في حلقة مفرغة، فيبدأ من حيث انتهى، وينتهي من حيث بدأ، ونرى بأن الحال لم يتغير في المجتمع العربي والشرق اوسطي منذ القرن الثامن عشر ولغاية الان وهو يدور في نفس الحلقة ويجتر نفس المآسي ولم يكن بقادر على شق الغلاف الفكري الجامد ولبس ثوب التطور والتقدم والتنمية، ويجب أن لا ننسَ باننا شركاء مع هذا المجتمع وجزء اساسي من هذا النسيج، وبذلك فإننا لا نستطبع أن نغير الاّ قدر تعلق الامر بنا.

الواقع الحالي
لو وجهّنا لأنفسنا أسئلة محددة وقلنا؛ ماذا يمكن أن يحققه المجتمع الايزيدي إذا درس وتدارس بعناية ما فيه من عوامل وعناصر القوة؟ ماهي الآلية التي عليه أن يختارها من بين البدائل المتاحة على ضوء الامكانيات على الأرض؟ كيف له أن يحافظ على وطنيته وعراقيته أولا وآخراً؟ ماهي المكاسب الآنية والمستقبلية في حالة اختيار الانظمام إلى كردستان؟ ماهو الافضل بين المركز والاقليم، ولماذا؟ كيف؟ وما الضمان؟ هل فكرنا بالواقع الجغرافي الايزيدي؟ هل مجالس الاسناد لصالح الايزيدية أم لا؟ هل وضعنا صورة واقعية عن اللون السياسي العراقي وكيف يتجه؟ هل قيّمنا الوضع السياسي وأسباب فشلنا في المراحل التي سبقت الان بما يستحق؟ هل وضعنا المجتمع في الصورة التي من الممكن أن يسود فيها دور الاحزاب السياسية الدينية المتطرفة للصعود إلى الحكم عن طريق الانتخابات (الديمقراطية)؟ هل ....وهل.... وهل.
ففي الوقت الذي يمتلك الواقع الايزيدي من الامكانيات التي تؤهله للنهوض بقوة على الساحة فيما لو تم التعامل مع الامكانيات المتوفرة من القوى البشرية والامكانيات المادية، وفي عدد الكفاءات والموقع الجغرافي المتميز الذي إذا تم تسخيره فإنه لوحده كاف كعامل سياسي له ابلغ الاثر في تركيع أية جهة سياسية بتقديم ما يناسب أهميته في صالح الايزيدية. ولكن نرى بأن الامكانيات البشرية في تخلّف متزايد، والفرص التعليمية في تدهور خطير، والوضع السياسي في تدني حقير، والوضع الروحي في ذوبان وتلاشي، وتعريض خصوصية التاريخ الايزيدي إلى المسح والمسخ، وعدم استخدام وسائل الابتزاز المذكورة في الحصول على الوظائف والبعثات والزمالات الدراسية، والمطالبة الجدية المبنية على الاستحقاق بتعديل نصوص الدستور والتردد في المشاركة المستقلة المستندة على الامكانيات الحقيقية، وبدلا من كل ذلك يقوم المهرجون المثقسياسيون بالترويج لبضاعة غيرهم على حساب حقيقتهم. وعليه، فالتأخر عن اللحاق بقطار الحياة الذي يسير بسرعة في زمن لا يرحم الغافلين، ولا يعرف قيمة للجهل، ولا يبالي بالجبناء، ولا يقف إلا في محطاته، وهو يحمل الجميع في نفس العربة ولكن هنالك الذي ينام على طول الطريق غير آبه بما يجري كما هو مع حال الايزيدية، على رأي أحد الممثلين المصريين الكوميديين "أنا كدا كويس". وهناك الذي يخطط لمستقبله على طول الطريق، ولا ينزل إلا في المحطة التي تحقق له الطموح التي رسم لها ووضع مستقبله في حساباته بشكل مدروس.
فلم يعد الفرق في التخلّف كبيراً بين المتعلم وغير المتعلم، على الرغم من الفارق الطبقي في الوضع المادي. ولم يعد ذاك الفرق واضحاً في تقديس الاشخاص والمسئولين بين عامة الناس وخاصتها، ولم يعد كذلك فيما يخص رجال الدين والزعماء. ولهذا فَمِن المثقفين مَن يرغب في الهجرة، ليس حباً بها، ولكن قد يرى فيها ضالته حيث حرية الكلمة والتعبير عن الرأي. ومنهم مَن يرغب البقاء حيث الواقع لكي يناضل في ساحة المعركة ويستشهد بشرف ليروي بدمه ساحة النضال تعبيراً عن حالة البؤس المستوطنة وليبعث برسالة إلى الانسانية حول معاناة تعانيها مجتمعات ليس لها ذنب سوى أنها مكونة من مجموعة بشرية تختلف عن غيرها في الاعتقاد. وللموضوع بقية.

علي سيدو رشو
القاهرة في 30/11/2008
rashoali@yahoo.com


لماذا تخلّف الايزيديون؟ 5-2

دور المثقف السلبي في تزييف الخطاب السياسي
فالمثقف الايزيدي حاله هو حال المثقف العراقي بدأ بالتراجع رغماً عنه بعدما ملّ من الكتابة ولم يلق آذاناً صاغية، فقدم الكثير من الاراء والسياسات والمقترحات والمبادرات والافكار، ولكنه لم يتمكن من بلورة رأي معين بسبب الهيمنة والدور السلبي الذي لعبه المثقفون المسيسون الذين وصفناهم سابقاً. وأن مقالنا حول ملابسات مقابلة بريمر يلقي بالضوء الساطع على حجم المخطط الذي يتم فيه رسم المستقبل الايزيدي كديانة. فالحكومة المركزية رفعت يدها عنهم، ربما لاسباب تتعلق بالجانب المذهبي وحساسية المذهب الشيعي تجاههم،وهذا ما استبعده انا شخصياً. بينما الساسة الاكراد وجدوا في هذه الشريحة جميع المواصفات التي يمكنهم بها الاستفادة منهم من حيث عدد البشر الخاوي، وجغرافية لاتقدر بثمن، وخيرات وأرض زراعية ليس لها في العراق من مثيل، والاهم من كل ذلك فهي من غير أدنى مقابل. فلماذا لا يفعلون؟ ولماذا يسمحون للغير مشاركتهم في هذه الغنيمة الدسمة؟ ولماذا يسمحون لهم برؤية النور؟ وكيف لا يدعمون صنف معين من المثقفين لكي يديروا بواسطتهم الحلقات التي تخنق المثقف الآخر الذي يريد أن يركب التطور من حيث يجب أن يكون؟
وعليه، فليس من المصلحة العليا للسياسة الكردية، على الاقل ظاهريا، في أن يكون هنالك خطاب سياسي إيزيدي موحّد، وتحاول بشتى الوسائل قمع أية نهضة، أو الجمع حول توحيد الكلمة باتجاه تحقيق المصالح العليا للمجتمع الايزيدي خارج المفهوم الكردي، وبهذا فإنهم وبحسب قناعتي يزرعون الالغام في طريق مستقبل كردستان. فليس من الحكمة أن يدّعون بأن الايزيديين هم الكرد الاصلاء، وهم على قناعة بأن الواقع يتحدث بشيء آخر ويعزف على وتر ثانِ نتيجة ما يحصل على أرض الواقع من تصرفات تثبت يوما بعد آخر عكس ما يقال. وليس من المعقول أيضاً أن ينسى الآيزيديون حجم الضرر الذي لحق بهم جراء هذه السياسة العرجاء، فيما لو أهملوا الجوانب الخصوصية لهم وتعاملوا معهم كعشيرة كردية محتقرة. فالمشكلة في أن احزاب اليوم لا تسمع الرأي المخالف، أو الرأي غير المتفق وتعتبره تعالياً عليها ويجب سحقه لأنه جاء من مصدر غير المصدر الذي يثقون به حتى ولو كان انتهازياً، والمهم أن تقول للمسئول نعم.
إذن، لماذا لا يتمكن المجتمع الايزيدي من توحيد خطابه كما هو حال بقية شرائح المجتمع العراقي؟ فهل الخلل في المثقفين؟ هل في المجلس الروحاني؟ هل في القيادات العشائرية؟ هل في التنظيمات السياسية؟ هل في دور المجتمع المدني؟ هل في سياسة الدولة؟ هل في جميعهم معاً؟ نعم في جميعهم معاً.

الحركة الايزيدية من أجل الاصلاح والتقدم.
لقد تاسست الحركة الايزيدية من أجل الاصلاح والتقدم كمشروع في 16/4/1991، وتغذت على أخطاء الاحزاب الكردية، وخطت خطوات مهمة في الاتجاه السياسي بعد الاحتلال وبوقت قياسي. ومن أهم تلك الخطوات هي مشاركتها ككيان سياسي معترف به رسمياً في الانتخابات العامة وحصولها على مقعد في المجلس النيابي رغم كل التزوير وفي جميع مراحل العملية الانتخابية، وهو بذلك يعد واحداً من الانجازات الكبيرة فيما لو تم استثماره بشكل عقلاني وبكفاءة. وأعني بالعقلانية والكفاءة فيما لو بقى المسئولين عنها بعيدين عن المناصب وتفرغوا للعمل السياسي في الوسط الجماهيري. ومن ناحية ثانية كان التعاطف معها كبيراً في بداية الامر اولاً: كونها تمثل الايزيديين كحزب مستقل بهم. وثانياً: بسبب الاخطاء التي مارستها الاحزاب الكردية على الارض، ثم خلو الساحة من أي تيار سياسي آخر في المنطقة.
وبما أن هذا الحزب يعمل في وسط جماهيري متعاطف معه، وهذا الامر غير مرغوب فيه من قبل الاحزاب الكردية، راحت تدس في أوساطهم عملاءها وتعمل على نخره من الداخل باي ثمن. ومن أهم ما عملته تلك العملاء هو التشهير ونقل بعض الاقوال وتنسيبها إليهم محاولين تشويه صورته في الذهن الايزيدي، وقد نجحوا إلى حد بعيد بسبب الدعم المادي الذي تم رصده لهذا العمل. وبذلك عملوا على إحداث الانشقاق ومن ثم تجريده من محتواه. فتم تصويره على أنه حزباً دينياً متطرفاً أخطر من الحزب الاسلامي الكردستاني والاسلامي العراقي والتيار الصدري وحزب الفضيلة والمجلس الاعلى الاسلامي وحزب الدعوة الاسلامي وميليشاتهم. بينما لم تكن سوى حركة ناشئة من مجموعة شباب في بداية عمرهم السياسي معتمدين على الجانب العاطفي ، وإنما أتت بالخبرة وتراكمت مع الزمن من خلال التعامل والحراك السياسي اليومي. ولم تكن كذلك حزباً متطرفاً وله سلطة وزنزانات وسجون ومعتقلات، أو تملك ميليشيات وفرق الموت، ولكن تم تصويرها وكأنها أخطر من تلك المواصفات ونسبت إليها الكثير من الاعمال التي جرت في المنطقة. منها التعاون مع الارهاب والتمويل من القاعدة والاحزاب السنية والبعثية والاسلامية. وبهذا فإن الحركة خرجت عن مسارها رغما عنها ولم يكن باستطاعتها بلورة واقع يمكن أن تجمع من حولها الجماهير التي وضعت الامل فيها؛ أولا لكونها ناشئة وتفتقر إلى الكوادر التي تتمتع بسمعة طيبة في المجتمع، ومن جانب ثانِ حجم الاعلام الذي سخّر والمبالغ المادية التي رصدت لفشلها. فهي بدت تأن تحت الثقل، ولكنها تتنفس بهدوء ولازالت حية وتتمتع بحيوية.

دور قاسم ششو
كان هناك بالتوازي مع وضع الحركة أمراً آخراً وهو دعوة قاسم ششو في بداية السقوط وتمركزه في سنجار. وكان من الممكن أن يعمل بمستوى حزب سياسي فيما لو استمر في وضع برنامج طموح وحسبما سمعت منه شخصياً عندما قال بأن الفرص ضاعت قبل هذا الوقت وذكر من الامثلة أيام الانكليز ودور حمو شرو في إضاعة الفرصة آنذاك، وكيف يجب أن لا ندعها أن تفوت في هذا الوقت. ولكن هو الآخر لم يكمل المشوار بالرغم من اننا اتصلنا به عدة مرات وقلنا له سوف نقف معك وندعم موقفك بقوة، وعندما تركز اقدامك في الارض بالتعاون مع القوى السياسية الكردية، عندها سيكون لنا معهم شراكة وندعم مواقف البعض وسنفوز كلانا في مساعينا المستقبلية. المهم أن يكون لنا في هذا الظرف ما يثبت شخصيتنا ومنها وبها نتفاهم مع الجهات السياسية لأن وضعنا وواقعنا يتطلب توحيد الجهود لمجابهة الاحداث مواجهة عقلانية. ولكن بعد زيارته لأربيل واتفاقه مع الساسة الاكراد على بعض ما أراد، سقط هو الآخر من الحسابات وانضم إلى الشارع العام، ربما لوضعه الخاص وحساباته العائلية والشخصية. وبهذا فإن إسقاط كل غصن من الشجرة سببت في فقدان الثقة وبالتالي لم يبق أمام عامة الناس سوى الاستسلام للأمر الواقع وتكذيب الدعوات والمدعين بالتغيير.

دور التجمع الديمقراطي الايزيدي
بعد عدة محاولات واتصالات في المهجر ومن ثم الاتصال بالداخل في الوطن، نظمت مجموعة من مثقفي المهجر لوبي سياسي بنظام مدني يهدف إلى بلورة الواقع الايزيدي وتقديم صورة واقعية عن البؤس وحالة التشرذم التي خنقت الواقع الايزيدي، محاولين إخراج الوضع من عنق الزجاجة. إلا إنه هو الآخر لم يقدر على رص الصفوف وتوحيد الصف والكلمة بسبب الخلافات الداخلية والتدخلات المعروفة من قبل بعض الشخصيات التي لها مصلحة معينة في تفتيت الواقع الايزيدي. ومن ثم محاولة شق الاتفاق على أي مستوى بحيث لا يحصل تقارب في توحيد الكلمة وعمل برنامج واضح يهدف إلى تطوير الواقع الايزيدي على أساس الخصوصية. فالغريب في كل هذا هو التصور الكردي بأن أي تطور إيزيدي سيكون ضد التوجه القومي وهذا هو الذي سبّب في حصول هذا التباعد وسيعمل على الشق العميق حتماً في المستقبل. فأرى بأن السياسة الكردية يجب ان لا تخشى أو تشك في التوجه القومي الايزيدي، ولكن كل الخوف الايزيدي يأتي من التذويب والانصهار الديني في التوجه القومي وبالتالي تجريده من خصوصيته واعتبارهم عشيرة من الاكراد.

تعيين الدكتور ميرزا الدنايي مستشاراً لرئيس الجمهورية.
والامر الذي كان من الممكن أن نعتبره ذو أهمية كبيرة ويقلب الكثير من الموازين، هو تعيين الدكتور ميرزا الدنايي كمستشار للسيد رئيس الجمهورية لشئون الايزيدية للوصول إلى مركز صنع القرار مباشرة فيما لو تصرّف بشيء من الصبر والتحمّل. وبالتالي فإن رئيس الجمهورية كان يتفهم معاناة الايزيدية أكثر من غيره وأنه بدعم موقفهم كان سيكسب الارض والبشر من دون خلق معاناة وما يحصل الآن من ضبابية، وكان سيكون للأمر وجهاً آخراً. فمهما تدعي السياسة الكردية، ومهما تقدم من دراسات تاريخية، ومهما تصرف من الملايين، فإن جميعها ستفشل إذا لم يوافق المجتمع الايزيدي باستفتاء عام على الانظمام للإقليم. وإن حصل الامر وانظمت مناطق الايزيدية إليه ويحمل معه عناصر الشك والريبة والتصور السلبي من التعامل على الارض وتقييد دورهم وعدم اعطائهم الوضع القانوني والدستوري بما لا لبس فيه من حيث احترام الخصوصية وتثبيتها في الدستور، فسيكون للأمر مستقبلا كلام ثانِ تماماً مهما قدّم المزيفون الايزيديون للقيادة الكردية التي تعلم باليقين ماموجود لحد التصرف الشخصي لكل واحد بدليل لو أن شخصاً معينا تشاجر مع زوجته في غرفة النوم، فإن الخبر يصل في نفس اللحظة إلى مقر الحزب والاسايش.

الحزب الليبرالي الايزيدي (الحزب المجهول).
لقد طل علينا بشكل مفاجيء بيان تأسيسي للحزب الليبرالي الايزيدي في الاول من سبتمبر/2008، وقد حمل في طياته طموحات كبيرة ومعالجات واقعية بأفكار عصرية حرّك الماء الساكن بقوة وتفاعلت موجاته في جميع الاتجاهات وتهامست الناس بين مذعور وغير مصدق ومتشكك ومتفائل والجميع على حق. تلاه بمذكرة استنكار في 3/سبتمبر/2008، حول فتوى فرزندة، ثم توضيح حول مناقشة كتل واحزاب سياسية ايزيدية تتفاوض مع الحزب الليبرالي. وفي 9/سبتمبر/2008 أصدروا توضيحاً هاماً حول بعض البيانات الكاذبة. وفي 27/9/2008 أصدروا بيان استنكار بخصوص حصة الاقليات في قانون المحافظات. وفي 12/أكتوبر/2008 أصدروا بيان استنكار بخصوص تهجير المسيحيين. وفي 13/أكتوبر/2008 أصدروا البلاغ السياسي للحزب الليبرالي الايزيدي. وهكذا بدت سلسلة البلاغات والبيانات تعبر كلها عن مواقف سياسية مهمة وقوية ولكن من مصدر مجهول (معروف)، حيث لا تغطى الشمس بغربال ويجب على الذي يتحمل مسئولية كبيرة كهذه أن يكون أهلا لها وقادرا على تحدي الصعاب وقد درس امكانياته بدقة قبل إطلاق التصريحات. ولحد الان لم يتضح الامر فيما إذا كان سيكون هناك ظهور لهذا الحزب أم لا، ولكن في حالة عدم الاعلان عن نفسه سيكون بمثابة الكارثة على رأس كل مَن ساهم في هذا العمل ويتحملون مسئولية تاريخية مشينة، خاصة إذا ما علمنا بأنه لم يعلنوا عن أنفسهم لكي نقول بأن جهة معينة سببت في إفشالهم، وإنما هم الذين أفشلوا أنفسهم.

واقع حال كردستان.
هنا يجب أن نعلم بأن الراهن الكردي لا يخلو هو الآخر من المفاجآت. حيث الانشقاقات السياسية، وتأسيس أحزاب سياسية معارضة، والشكوك التي تحوم حول الدور الامريكي الداعم بسبب الضغط التركي واهميته أمريكياً من جهة، ووجود حزب العمال الكردستاني من جهة ثانية، ودور إيران وسوريا، ودور الحزب الاسلامي الكردستاني في الشارع الكردي، وموقف الحكومة المركزية من تطبيق المادة 140 من الدستور، وما يفوح من الروائح الكريهة بسبب الفساد الاداري والمالي والسياسي، والاخطاء الكبيرة التي تمارسها على الارض. فكلها عوامل تنذر بدق ناقوس الخطر في الصف الكردي، وليس من السهل استبعاد هذه التوقعات من الساحة بما فيها إذا ما خلت الساحة للحزبين الرئيسيين وتاريخهما المعروف مع بعض والذي من الممكن أن يتجدد العداء على ضوء تقسيم المصالح ومناطق النفوذ. وبقراءة بسيطة للواقع، سوف يكون لجميع هذه التوقعات ردود أفعال سلبية، وستفتح المجال لخلق معارضة إيزيدية واقعية في الداخل الكردي وهي الان في حكم النضج وتحتاج فقط إلى قيادة شجاعة تضع العربة على السكة، وقيادة الحركة الايزيدية بقيادة السيد وعد حمد مطو قد تكون هي المرشح الكبير لهذه الخطوة.
إن الذي يقودني إلى قول هذا هو البحث والاستطلاع الذي أجراه الزميل هوشنك بروكا من خلال استطلاع اراء مختلف المواقف والشخصيات، وعلينا أن لانهمل نتائج الابحاث المهمة لأنها تعبير حقيقي عن حجم المشكلة. فلقد توافقت جميع الاراء التي استطلعت بما فيهم من هم الآن في السلطة الكردية من الايزيديين بأن الواقع الايزيدي مع السياسة الكردية يشوبها الخلل. فالذين أجابوا على أسئلة الزميل هوشنك افصحوا بوضوح عن ذلك، بينما الذين لم يجيبوا عليها، فهم خائفون من قول الحقيقة وليس إلا تجاهلا للحقيقة التي يرونها بعيونهم ولكن بدوافع مصلحية لم يشتركوا في ذلك الاستبيان، وأن عدم إجابتهم كانت أكثر بلاغة ووضحاً مقارنة بالذين أجابوا على ذلك الاستبيان، وهي نتائج نفهمها في البحث العلمي الاكاديمي.
في عام 1981، وعندما كانت الحرب العراقية-الايرانية مشتعلة الاوزار وتحصد ارواح الشباب من كلا البلدين وتثكل وتيتم الالاف، قرأت في إحدى المجلات الرصينة مقالاً يناقش وضع الحرب بإجراء مقارنة بين طموح حزب البعث ومدّه القومي، وطموح القيادة الايرانية في مدّها الاسلامي. وفي حينه أعطى المقال نفس علامات الخطورة للموقفين بالنسبة للعرب عامةً، ودول الخليج بشكل خاص مشيراً إلى تعامل العرب بتخوف مع الاتجاهين، القومي البعثي والاسلامي الايراني بنفس المقدار. ولهذا قاموا بتغذية الطرفين بحيث لو أن أي منهما انهكت قواه، فسيكون من السهل التعامل مع الطرف الثاني والتخلص منه. وفي هذا الصدد فإنه لا الموقف القومي المتشدد، ولا الموقف الاسلامي الذي لا يستبعد بروزه المتشدد في الوسط الكردستاني يمكنهما أن يكونا لصالح مستقبل الايزيدية. وأن مصدر القلق الايزيدي يأتي من التصرف على ضوء هذين البعدين، إلاّ ما يكون منه مكتوب بوضوح في الدستور الكردستاني من حقوق وبنود تلزم بوضوح بعدم تكرار مآسي السابق. ويجب أن لايكون هذا مصدر إزعاج للسياسة الكردية سواء بحق الإيزيدية أو المسيحيين او باقي المكونات في الوسط الكردستاني، لأن الضبابية تولد الشكوك وان وضع كردستان كتجربة ناشئة يتطلب زرع الثقة بين مكوناتها بدلاً من التشكيك بمصداقيتها. وللموضوع بقية

علي سيدو رشو
القاهرة في 4/12/2008
rashoali@yahoo.com


لماذا تخلّف الايزيديون؟ 6

لقد كتبنا الحلقات الخمسة السابقة عن "لماذا تخلّف الايزيديون؟" في ظرف قصير، وبذلك لم نعط الوقت الكافي للقراء الكرام لكي يدلوا برأيهم فيهم. ورغم استلامنا لبعض الردود المشجعة، إلا أننا لم نسلم من القذف والشتائم من العيار الثقيل ايضاً وكأنه بعملنا هذا، ننهش في جسم من لايريد لهذه الملة سوى الابقاء على حالها من التخلف ولا تريد لها أن تتبصر الحياة وتضع اصبعها على الجرح الذي لا يزال ينزف دماً وقيحاً. ولابأس في هذه الحلقة من التطرق أيضاً إلى بعض المقترحات والحلول لعبارة "لماذا تخلفنا".
ولو رجعنا بذاكرتنا ودققنا النظر في رأي الاخرين بنا، أو بالاحرى أحد أسباب تأخرنا، فأول ما يتبادر إلى أذهانهم في أول ذكر للإيزيدي هو، ساحات العمال وذلك الانسان الهزيل، الفطري، الشاحب، ذي الشاربين، والمهلهل الذي خلق محكوماً عليه بالاعمال الشاقة، وهو يركض خلف سيارات المقاولين وأصحاب العمل ليعمل في البناء وحمل الطابوق وكتل الخرسانة. وأن هويتهم وديدنهم في الفوز لدى أصحاب العمل هو الجدية في العمل بكل إخلاص ودقة ونزاهة لأنه تربى على تلك الذهنية مستلهما من تعليمات ديانته الاخلاص وعدم التعامل مع الغش أو النفاق أو الكذب. وكان ذلك الاخلاص هو نفسه السلوك الذي تعامل به سواء كان ذلك في العمل اليومي، أو في الجيش أو أثناء تاديته لواجباته الوطنية مهما كانت نوعيتها. أو عندما كان يعمل في حقول الدواجن، أو في العمل الزراعي؛ أي (القناعة) بالعمل في أصعب المهن وأكثرها إرهاقاً وبأقل الاجور، وكان هذا من بين أهم الاسباب التي دعته مضطرا للقبول بالتبعية، والشد به نحو الوراء، وما ترتب عليها من تخلف اقتصادي واجتماعي وعلمي وثقافي.
وقد تعرض الكثير منا ممن اخترقوا الحواجز الحديدية وأكملوا تعليمهم الجامعي إلى القول من قبل الغير وهم يقولون لنا بأنكم لا تشبهون الايزيديين، ضّنا منهم بانه يجب ان يبقى الايزيدي ذلك الانسان الذي لا يغادر ساحات العمال وكما تم وصفه فيما سبق. أو يجب أن نكون ونبقى كما تصورتها مخيلتهم هم، وليس كما يجب أن نكون نحن عليه. وبعبارة أخرى فهم الذين يجب ان يختاروا لنا ما نحن عليه، وما يجب أن نكون عليه حسب قياساتهم، وكما يريدوننا. أو كانوا في أحسن الاحوال يتجاهلون بأنهم قد تعاملوا مع إيزيديين يعملون في دوائر الدولة ولم يعرفوا عنهم طبيباً ناجحاً أو أستاذاً متميزاً أو مهندسا يدير مشروعاً حيوياً، إلا من خلال ما تعلق في ذهنيتهم بأنهم متواجدون فقط في ساحات العمال وباب الطوب بشكل خاص وفنادقها المتواضعة وهم يدخلون افواجا في مقاهي باب الطوب التي كان يغني فيها الفنان المشهور آنذاك المرحوم "بير كرو" بشكل اساسي. وبقت تلك النظرة ملازمة حتى للأستاذ الجامعي لان الاخر كان ينظر للأستاذ أو الطبيب أو المثقف الايزيدي من خلال ما تعلّق بذهنيته، فكان يقف أمام المثقف الايزيدي ولكنه يتخيل إنساناً بثوب عامل في ساحة العمال أو يعمل في حقل دواجن أو في مزرعة أحد الاقطاعيين. وكمحصلة فإن الآخر لم يكن يتصوّر الايزيدي إلا كائناً ذليلاً أمامه، وإن وجده مثقفاً ومتمكناً منه، عرض عليه أن يدخل الدين (الحق)، عارضاً عليه الجنه وكأن الجنة عبارة عن أرض تابعة لبلدية يديرها هو وأبوه ويوزع فيها الاراضي كيفما شاء ولمن يشاء حسب (شرع الله).
بهذه العقلية الفجة كان وما زال المقابل يتعامل مع الشخص الايزيدي مختزلاً نضاله وإخلاصه وشخصيته وتراثه وتاريخه ووطنيته وحتى معتقده في هذه الدعوة الرخيصة المستهلكة البالية. وكان من الطبيعي ايضاً أن تنتقل بعض آثار وانعكاسات تلك الصفات إلى الاجيال التي تلت تلك الايام بسبب ما كانوا يعانون من التهميش والتحقير والعيش في ظروف نفسية منكسرة ومقهورة. ولكن بالرغم من كل ذلك كان الايزيديون يتحولون إلى أسود كواسر عندما كانت تتعرض كرامتهم للمهانة، أو يحاول المقابل أن ينتقص من إعتبارهم وشهامتهم، مهما كان منصب المقابل أم صفته أو مقامه السياسي او الاجتماعي، وكان الآخر يتحول بالمقابل إلى شخص ذليل أمام شراسة الايزيدي الثائر انتقاما لذلك الانتقاص المتعَمد.
إذن هكذا بدأنا حياتنا الصعبة، وهكذا تعامل الآخر معنا ولا يزال، وهكذا يجب أن نخترق هذا الثوب ونمزقه ونبرهن عكس ماكان يتصور. ولكننا يجب أن لا نتخلَ عن عنصر الكرامة والشهامة التي رافقانا على مدى الدهر وتميزنا بها. وهي عناصر يجب أن نفتخر بها لأنها من العناوين الاساسية التي لازمتنا، وبها قاومنا حملات الابادة، ومن خلالها عرَفَنا العالم وشهِدوا لنا، واستشهدوا بمقاومتنا العنيدة وسط موجات الغزو والتكفير والابادة. وكنا نتحلى بتلك السمات لغاية سبعينات القرن الماضي، ومع بداية التسعينات تغيرت الاحوال بزاوية حادة عندما حفر الحصار في عظم المجتمع الايزيدي وذاقت به السبل وجعل منه إنساناً ضعيفاً أمام متطلبات العيش. وأني إذ أعتبر بأن تلك الفترة هي القشة التي أخترقت وقسمت ظهر المجتمع الايزيدي؛ ومنها، ومن خلالها دبّ الخراب في جسمه ونخرته كالسوس من العمق بشكل عام بعد أن كانت مقتصرة على حالات فردية، وبالتحديد في فترة العيش في ربيعة.
فبعد أن كان الآخر يهاب الايزيدي ويحسب له الف حساب حتى عندما كان يعمل في الحقل أو المزرعة أو كعامل بناء، بدأ يتقبل الذل والمهانة، واخترقه الآخر من زاوية الفقر بما في ذلك ما سرى من الدم الفاسد مقابل الحفاظ على مكانه لإعالة عائلته وإدامة ضرورات حياته. ولكن ستبقى تلك الأيام وصمة عار ووضاعة بقيم وشيم الجيرة في جبين شمر ربيعة لما اقترفوا من أخطاء بحق الايزيديين واستغلال ظروفهم القاسية، ويجب أن لا ننس الدور السلبي للحكومة آنذاك في خلق وتفعيل تلك الظروف بتهميش مناطق الايزيدية بتعمد سياسي-ديني مسبق.
فهل نسينا تلك المآسي، أو هل يجب أن ننسى تلك الأيام السود وتداعياتها السلبية؟ ومتى نستفيد إذن من عبر التاريخ؟ وهل التاريخ هو فقط عبارة عن أحداث تمر على الشعوب من غير أن يتم تحليل حيثياتها وتداعياتها؟ فالعمل شرف وليس فيه من عيب، ولكن كل العيب في أن تبقى تعمل في المهن التي تعزز فيك عنصر التخلف ولا تستفيد من الفرص وتستغلها لصالح تطورك وتقدمك وتوظف امكانياتك الذهنية في مغادرة ما يسبب لك تعطيل عجلة تقدمك.
ومن خلال متابعاتي لسلوك الفرد الايزيدي وعامته وحتى غالبية مثقفيه، أرى بأنه يفقد الكثير من التوازن في الفترات الانتقالية وأثناء المواقف الحادة ويظهر عن تعاطفه بشكل سريع بحيث يعطي للآخر إشاره بأنه من السهل اختراقه والاستفادة من امكانياته بدون مقابل، وبدون أن يفرض استحقاقاته، أي ليس له استراتيج على المدى البعيد. والشيء المهم الثاني هو أنهم لا يستوعبون دروس وعبر التاريخ بسهولة إلا عندما تصطدم جبهتهم بالواقع حيث يكون قد فات الوقت على استعادة اعتبارهم، فهم سهلي الانقياد وساذجي التفكير. فلا يتحسبون ويحللون المواقف قبل الوقوع في الفخ، ولكن بعد ذلك من الصعب أن يخرجوا منها كما دخلوا، أو على الاقل يكونوا قد دفعوا ثمنا باهضاً لوقوعهم في ما نصب لهم من الفخاخ والمكائد. وبذلك، فإن إحد أهم اسباب تخلّف الايزيديين هو تلك السذاجة والبساطة والثقة العمياء في التعامل مع المقابل، ومرّد كل هذا لابد من أن يكون من الجهل وقلة التعليم وتبعية المثقف.
فالحياة تطورت، ولغة المصالح بدت تفرض بنفسها ويجب أن نفهم ويتفهم الذين سيحرزون على قيادة المجتمع في المراكز السياسية والحساسة بأنهم ليسوا ملكا لأنفسهم فقط، وإنما يحتلون مواقع باسم المجتمع، وتقع على عاتقهم الكثير من المسئولية الاخلاقية والعمل الواجب تحقيقه سياسياً واجتماعياً واقتصادياً وامنياً وثقافياً. وعليهم أن يوظفوا امكانياتهم لتطوير أنفسهم ومجتمعهم بما يتناسب مع الحياة وروح العصر والحداثة. لذلك نقول، كفانا لوم رجال الدين وشيوخ العشائر عن أعمال لم يقدروا أن يحققوا أكثر، على الرغم من أن تأثيرهم السلبي لازال مؤثراً جداً. وعلينا المشاركة في صنع الحياة العصرية، وترك الخلافات الشخصية والانخراط بدون مقاصد مبيته في العمل السياسي لانه الضمانة الاكيدة والوحيدة التي يمكنها أن تنتشلنا من هذا الواقع المرير. فالمشاركة الجدية في الانتخابات القادمة سيكون لها أبلغ الاثر في المستقبل الايزيدي سياسياً وأمنياً وعلى مستوى التعبئة والتهيؤ لطفرات نوعية باتجاه تحقيق الاهداف وتعزيز الذات، فيما إذا أحسننا التعامل معها واخترنا الصح من الخطأ.
فهيا يا شباب للإنخراط في العمل الجدي والمشاركة الفعالة في اختيار ممثليكم وحسب قناعاتكم، وتمزيق ذلك الثوب المهلهل وشد الاحزمة لتبديد تلك النظرة الدونية من خلال العمل الدؤوب كما فعلها السود في أمريكا من خلال التعليم الجيد والبحث عن النقاط المضيئة التي من الممكن الاستفادة منها في رسم مستقبل مشرق لمجتمعنا ضمن هذا الشعب الخيّر الذي سيكّن لنا كل الاحترام إذا ما تمسكنا بأخلاقيتنا المعهودة في الاخلاص في العمل والوظيفة وميادين الحياة المختلفة؛ في الرياضة والزراعة والثقافة والتجارة والتعليم واحترام المرأة وحقوقها. فيجب أن نبحث عن ابطال في كل زاوية، وفي كل شريحة اجتماعية، وفي كل مكان ليبرزوا ويرفعوا صوتنا عاليا لكي يتعرّف علينا الاخر ويعلم بأننا لا نختلف عنه سوى في تفويت الفرص علينا من غير حق. ومتى ما توفرت تلك الفرص، فإننا لا نختلف عن أبرزهم خلقا وشجاعة وذكاءً، ويجب أن نقّدر امكانياتنا ونعلم بأنه لا مستحيل في الحياة مع توفر عنصر الارادة المبرمجة.
فليس سهلاً على المجتمعات البسيطة التي من حجمنا، والتي عاشت وعانت الويلات في وسط لا يعترف الآخر بوجوده، أن يحقق ذاته. ولايمكنه أن ينهض مالم يخترق الواقع بالعلم والمعرفة والعمل النوعي فارضا نفسه رغماً عنهم من خلال توحيد الجهود وتركيزها بيد مجموعة تحسن العمل والتعامل، وتستطيع التصرّف بحكمة مع المتغيرات. ويبدو بأن هذه هي النقطة التي يراهن عليها الآخر بحيث يجب أن لا تتحقق ولا ترَ النور لانها تتقاطع مع مصالحهم، مدركين أهمية الدور السياسي. وهي مفهومة ومهمة من قِبل مَن لايريد أي جمع بين أطراف هذا المجتمع البسيط لكي يبقى هامشياً، ويجتر التخلف ويحقق للغير ما يصبو إليه من غير أن يكون له نصيب في المقسوم.
إذن، فالتخلّف لم يكن اختيارنا طوعاً، ولم نكن متخلفين بالفطرة، ولم يأتِ ديننا بالتخلف بدليل تعليماته التي تقول؛ إذا تريد أن تمد يد العون والمساعدة للغير، فلا تسأله عن دينه. والقول؛ اللهم تشمل العالمين برحمتك ونحن معهم، فهل أكثر من هذه الدعوات إنسانية؟ ولكن الآخر فرِض التخلّف علينا فرضاً رغماً عنا بسبب الفتاوى الدينية وحملات الابادة. انظر (فتوى مفتي العمادية ابو السعود العمادي 896-982ه أن اليزيدية أشد كفراً من الكفرة، الامام أحمد 164-241ه، أبا الليث السمرقندي المتوفي سنة 373 ه، فخر الدين الرازي 544-606ه، أباح قتل اليزيدية وابكارهم وزوجاتهم وإباحة أسر نسائهم وذراريهم. عبدالله الربتكي 1060-1159ه، أعتبر اليزيديين مرتدين كفار بلا كتاب وبلا دين كافرين ويحل للسلطان مالهم ودمهم حتى يرجعوا عن ما هم فيه من ظلالة وكفر)، وغيرهم الكثير. لاحظ ماجاء في الفتوة بحيث يربط الدين بالسياسة وهو يقول "يحل للسلطان".

لنرَ، كيف تفوقت اليابان والمانيا التي دمرتا في الحربين العالميتين على أمريكا علميا واقتصاديا نسبياً، ولنفحص ما دعاهم إلى ذلك التفوق، ولنأخذ من الشريحة السوداء في أمريكا وماذا حصل لها. وقد يقول قائل بأنك إنسان مثالي بطرحك هذا عندما تقارن هكذا مواقف، بل إنك أكثر من خيالي وفوق الواقع. ولكني أرى الأمور بغير تلك العين عندما أستحضر أمكانياتنا التي لمستها بين طلبة الجامعة وتفوقهم من بين الالوف، ولسنا بحاجة سوى إلى موجّه ملهم، مخلص وشجاع يستطيع لملمة الشتات المبعثرة وتوظيفها وصياغتها.
فإننا بالتاكيد لا نستطيع أن نحمل "الرمانتين باليد الواحدة" كما يقول المثل، ولكننا نستطيع أن نرتب الامور حسب الأولويات ونختار الافضل من بينها. فماهي الاولويات إذن؟ وكيف يمكن ترتيبها؟ وما هو الافضل؟ فأولى الاولويات من وجهة نظري المتواضعة هو ترتيب وضع سياسي يجمع بين المختلفين، لان في ذلك الضمانة الاكيدة للمطالبة الحقة بحقوق الاجيال في الوقت الراهن، وهي نقطة الضعف التي يراهن مَن لايريد للإيزيدية التقدم بوجوب عدم التحقق. أما كيف يمكن أن يتحقق هذا الوضع السياسي المختلف؟ فهو ليس من السهولة أن يتحقق، ولكنه ليس مستحيل التحقيق. فالاحزاب الكردية تناحرت وملأت ارض كردستان من خيرة شبابها، ولكن عندما تطلّب الامر، تضامنت ونجحت في تحقيق الكثير لشعبها.
فلنعطِ الوقت للذين يعملون مع الاحزاب السياسية الايزيدية والكردية لكي يبرهنوا على صحة دعواهم بأنهم القادرون على تحقيق الحد الادنى للمطاليب المشروعة للمجتمع الايزيدي، وهنا بالطبع يجب عدم ترك الساحة من غير رقيب يتماشى مع الوضع الذي اختارته تلك المجموعات. فالتغيير الكامل محال في الظرف الراهن، ولكن لا بأس من التفكير في التغيير الجزئي على أساس الاختيار بوضع اليد على أهم العوامل التي جعلتنا أن ندور في حلقة فارغة، ومن ثم دراسة الالية التي تمكننا من تجاوزها على ضوء معطيات واقعية بدراستها وتمحيصها.
وليكن الاختيار الاول بجانب الجهد السياسي يبدأ من جهود بابا شيخ وبإشراف ورعاية سمو الامير تحسين بك والمجلس الروحاني (صاحب الايميل الجديد)، بدراسة امكانية المصالحة بين مختلف القضايا والقتل واختلاف رؤساء العشائر الذين نهشوا الجسم الايزيدي من خلال حملة من اللقاءات والمشاورات والدعوات لعقد العديد من الجلسات التمهيدية لبلورة مجموعة من الافكار بحيث يبدأ العمل بالقضايا الاسهل ومنها صعوداً لللأعقد لأكتساب الخبرة وجمع المتناقضات بعد فرزها من القضايا المتفق عليها، بهدف تسهيل العمل بالتعاون مع الوجهاء والسياسيين. فكما قلنا لا يوجد مستحيل مع النية الصادقة، وأكبر الادلة على ذلك هو المصالحة بين عائلة قاسم ششو وقاسم سمير والتي كانت تعد واحدة من أعقد القضايا العشائرية في تاريخ الايزيدية، فنبارك لهم ذلك ونتمنى للآخرين أن يحذوا حذوهم.
فأرى بأن على بابا شيخ (وهذه اعتبرها دعوة مفتوحة وملحة لسماحته ليطرحها بدوره على المجلس الروحاني) تبويب غالبية المشاكل التي مزقت الهيكل الايزيدي، وفرْزِها عن البعض ودراستها بجدية وبمشاورة القانونيين والوجهاء وخاصة الذين يمتازون بالخبرة ونزاهة الشخصية بحيث يكونوا مقبولين من جميع الاطراف، ومناقشتها من جميع جوانبها، وبالتالي البدء بوضع الحلول الافتراضية من قبل اللجان التي تشكلت لذلك الهدف. وهنا لايشترط أن يتم حل جميع المعضلات بالعصا السحرية، وإنما أي تقدم وفي أية قضية يعتبر إنجازاً كبيرا. وهكذا العمل ايضا مع القضايا التي لم تحل بعد، وتأجيلها لمراحل اخرى لحين تهيئة وإنضاج الظروف الموضوعية لإيجاد الحلول االمقبولة لها. وأقترح كذلك بفتح موقع على الانترنت لاستقبال الاراء والافكار والمقترحات والحلول من مختلف الجهات والشخصيات السياسية والقانونية والنسوية والمراكز الثقافية، وليس الاكتفاء فقط بعمل بريد الكتروني. وبذلك ستكون لدينا قاعدة معلومات يمكن الرجوع إليها ووضع اليد على جميع المشاكل بهدف وضع الحلول المناسبة لها تباعاً وحسب حجم المشكلة. فعلى بركة الله ومنه العون والتوفيق.



علي سيدو رشو
القاهرة في 11/1/2009


لماذا تخلّف الايزيديون؟7

أزمات الخطاب وأزمة الحلول.
منذ مدة طويلة يتكرر الكلام، بل الطلب بكثير من الإلحاح على توحيد الخطاب الايزيدي سواءً على المستوى الديني أو السياسي، أم على مستوى الاداء الاجتماعي. وبالقاء نظرة فاحصة على هذه الطلبات التي تفرض نفسها بهذا القدر من القوة، لابد لنا من أن نتوصل إلى نتيجة مفادها إنه لابد من أن تكون هذه الدعوات التي تأتِ من مصادر متعددة ومختلفة في الثقافات والخلفيات، على درجة عالية من الصواب. وإلا، لماذا التركيز على هذا المطلب من دون غيره؟ ولماذا التأكيد عليه بهذه الدرجة من الاهمية؟
فهكذا، ومن خلال متابعاتي للإعلام والواقع الثقافي والاجتماعي والسياسي في الوطن العربي الذي نشكل جزءً من نسيجه، أرى بأننا نسخة مصغرة منه من حيث التشتت والارتباك وضعف القرار وتركيز السلطات بيد قيادات لاتهمها سوى بعض المصالح الضيقة على حساب الحقائق والمصير. وأن جانب كبير من هذا الارباك والتشرذم سببه خلق الازمات من قبل تلك القيادات- سواءً كانت عن معرفة أو ناتجة عن جهل- لكي تبقى تتمسك بمفاتيح حياة الاخرين، وتستفيد من أمكانياتهم وما يدور بينهم من خلافات ونزاعات. وفي ذات الوقت تعمل على خلق الانشقاق فيما بين الفئات المثقفة التي تحاول إيجاد الارضية المناسبة لأي مسعى وأي قدر من التلاحم فيما بين الافكار بهدف التوحيد وجمع الشتات حول كلمة متفق عليها، وبالتالي الوصول إلى خطاب موحد. أو حتى وإن كانت الفئات المثقفة تبغي القيام ببعض الاصلاحات، فإن الواقع السياسي غير المستقر وإدخال الاوضاع في ظروف غير اعتيادية تجعل من مساعيهم مشاريع مؤجلة على الدوام، مما يجعلهم دوما محل شك وريبة، ومرصودين ضمن دائرة الاتهام، ولهذا فإنهم يعيشون مشتتي الجهود.
وبطبيعة الحال، فإن الدور الاعظم في هذا الشأن يقع على عاتق المتنورين والمثقفين لتبديد هذا الفكر المعيق لمساعيهم، وخلق الارضية الصلبة التي تحد من قوة وفعل تلك الازمات ومحاولة وأدها في مهدها قبل أن ترى النور، لكي تفتح الطريق أمام توحيد الخطاب. وبما أن للمثقفين اليد الطولى في هذا الامر، عليه فهم مرفوضون من قبل المتنفذين على حالهم الراهن، ويجب تكبيلهم بما يوقفهم عن الحركة والمناورة في بلورة أي رأي يصب في مسعى التوحد. وهو ما تفعله المشايخ والحكومات والاحزاب وحتى المنظمات والقطاعات المختلفة وبمختلف الاساليب والسبل. والدليل على ذلك هو، الهجرة المستمرة والمخيفة من العقول والكفاءات إلى الخارج بعد أن ذاقت بها السبل وعجزت عن تحقيق الحد الادنى مما يجب تحقيقه، ولكن بالتاكيد ستتفاعل جهودهم في المهجر بعد أن أضيفت معاناة جديدة إلى حياتهم وشعروا بقيمتهم كثروة لا تقدر بثمن.

الازمات التي يعاني منها المجتمع
أهم ما يربك تقدم المجتمعات الانسانية هو عدم الاستقرار السياسي والاجتماعي، خاصة إذا ما رافقهما تخلف ثقافي حيث يقود إلى خلق وضع نفسي غير متوازن لدى الأشخاص وتفعيل مواطن الخلل فيهم، وإنتاج إنسان ضعيف، مهزوم في داخله، غير واثق من امكانياته، غير مؤمن بالتغيير، يجتّر الماضي ويعيش ويتعايش فيه، مسلكي، غير منتج، ومتفاعل وهاضم للازمات بشكل طبيعي رغماً عنه.
ْ فمن بين الازمات المختلقة والسائدة في أوساط المجتمع، أزمات تتعلق بالجهات الحكومية، وهي المصدر الرئيسي لخلقها وبثها وخاصة ما يتعلق منها بالحكم الطائفي، وخروقات الدستور، وازدواجية المعايير، وانتشار الفساد الاداري والمالي، وضعف الخدمات، والبطالة، والقتل على الهوية، والهجرة والتهجير، وازدواجية تطبيق القوانين كونها تمثل فقط حبراً على ورق. وهي قوانين ذات مضمون عصري على الورق، ولكنها تخلق اشنع الازمات أثناء التطبيق كما هو الحال في بنود الدستور العراقي، ويدفع المواطن ثمن جميع ما يترتب على تلك الازمات وما ينتج عنها من الاخطاء والسياسات العنصرية على الواقع.
ْ وهناك أزمة في الهوية والانتماء؛ وهي في أغلب الأحيان عامل تفرقة واتهام، وأحياناً أخرى سبباً في القتل والتهجير والاغراق في التقليد والمحاكاة والسطو على مقدرات الناس وسلب حريتهم في الاختيار بدون أدنى أحترام لحقوق الانسان، وأخذ مستجدات الحياة والتنمية والتطور بنظر الاعتبار. وابتلاع البعض لمقدرات البعض الآخر وتهميشهم وتجريدهم من حقوقهم المشروعة التي وردت في الدساتير والقوانين واللوائح الدولية، كما هو الحال مع واقع الاقليات الدينية والعرقية من خلال حذف المواد القانونية التي تثبت حقوقهم.
ْ أزمة في الحياة الاجتماعية وغياب وتجاهل السياسات التي تعالج واقع المجتمع فيما يتعلق بالتعليم والصحة ومكافحة الفقر والمجاعة وتحقيق العدالة الاجتماعية، وانتشالهم من العوز رغم توفير الامكانيات الاقتصادية الهائلة، مع علم الاخرين ومعرفتهم بتلك الحقيقة والامكانيات وقوة الاقتصاد.
ْ وتعد الازمة الثقافية ومعاناة المثقف من اكثر القضايا خطورة بسبب تبعية المثقف واستثمار طاقاته وامكاناته في غير الوجهة التي يجب ان تسخر لها. وبالتالي فقدان المجتمع الثقة بملكاتهم، والنظر إليهم سلباً بسبب تلك التبعية الاضطرارية، التي منها ما هو متعلق بالمعيشة، واخرى مرتهنة بالوضع السياسي والتهم الكيدية الجاهزة كون افكارهم لا تعبر عن فكر يتماشى مع فكر تلك المجاميع التي تسيطر على مقدرات الاخرين. وأختزال هذه الثروات الفكرية وتقييد امكانياتهم في أمور تافهة، أو أغتيالهم وفي افضل الاحوال يتسببون في إبعادهم وتهجيرهم بحيث يبقى الوسط الاجتماعي والسياسي ينتج ويفرّخ التخلف والميوعة والتقهقر.
ْ إضافة إلى ما يفرزه التشدد والتعصب والتطرف والانغلاق وما ينعكس منها على الفرد والمجتمع والمستقبل من سلوكيات سلبية وخير دليل هو ما نشهده على الساحة العراقية من استهداف وتكفير وتصفيات باسم الدين بسبب ذلك الانغلاق والتشدد، وسيطرة الافكار السلفية على مجتمع متعدد الاعراق والخلفيات الدينية والعرقية، وتعبئة الجميع في قفصٍ واحد، والحكم عليهم بنفس المنظار، وهم مختلفون في الدين والقومية والانتماء.
ْ وأهم ما يبرز ذلك السلوك، بشكل أزمة، هو عدم امكانية تحقيق أي توازن أو ايجاد صلة إيجابية فيما بين العلم والدين. وفشل نظريات ورهانات المتدينين في مقاومة التطور العلمي، وبالتالي ارتداد سلبيات تلك السلوكيات على الدين نفسه واتهامه فيما هو غير مسئول عنه بسبب تلك المخالطة والمغالطة بحق العلاقة بين العلم والدين مما فسح المجال للفكر الطائفي المقيت والتكفير والقتل على الهوية مضحياً بالهوية والإنتماء إلى الوطن.
ْ بالاضافة إلى كل ذلك، أزمة العيش في الماضي ودهاليزه من دون اخذ الحاضر المتطور بنظر الاعتبار، وبالتالي الدوران في فراغ غير ذي نفع والابقاء اسيرا لعادات وتقاليد غير مواءمة مع التطور والتمدن، وخلط العادات والتقاليد الاجتماعية بالتراث الديني. وهذا ما جعل من الفرد أن يعيش واقعين مختلفين ومتناقضين في نفس البيت، بل وفي ذات نفس الشخص بين ما يراه بأم عينيه، وبين ما سمعه من ذلك التراث الاسير في القالب القديم المحكوم بطوق الانغلاق.
ْ وفي الحقيقة لا يبدو بأن هنالك أملا في امكانية حل لاية معضلة من جميع ماذكر من أزمات، على الاقل في المستقبل المنظور. وبذلك خضع المجتمع لمجموعة قيود متداخلة ومترابطة من حلقات درستها تلك المجموعات بعناية بحيث لم يعد الانفكاك منها بتلك السهولة التي نتوقعها، أي أن هناك أزمة في حل جميع تلك الازمات.
ولكن بعد هذا التصوّر السوداوي، من حقنا أن نسأل. هل انتهت الحياة؟ وهل علينا التوقف عن التحرك إلا في فلك تلك المجموعات والقيادات؟ هل غُلِقت جميع الابواب والمنافذ بوجه المثقفين؟ ألم يعد بامكان المثقف فتح ثغرة في جدارهم وانتشال الواقع من غيبوبته؟ هل لا يدرك المثقف الحقيقة واين الخلل؟ هل لا يعرفون كيف يمكن التخطيط لفك تلك العقد التي تربط كل تلك الكيفيات ببعضها لتصب في مصلحة جهة معينة على حساب المجتمع العليا؟ أيجب ان تكتفي الطبقة المثقفة بدور المتفرج ومصايرة ذلك الواقع المريض بالنقد فقط؟ لماذا نتثقف إذن إذا كنا نباع ونشترى بنفس الثمن البخس الذي لا يختلف فيه عن ثمن غيره (مع جل احترامي لآدمية الانسان)؟ هل بامكانه أن يغير أم لا يستطيع فعل اي شيء؟ هل فحص المثقف امكانياته الفعلية بكامل طاقاتها وحاول الاستمرار بعد فشله في المحاولة الاولى؟ هل قاس ردة الفعل لدى الجانب الاخر واختبر نقطة ضعفه؟ هل عرف المثقف كيف يغير خططه على ضوء ما أكتشفه من خلل في المقابل؟ هل يجب عليهم أن يتغربوا عن مجتمعاتهم ويتركوا الحبل على الغارب ويقولوا قولا كما يقولها الاخرين؟ وهل يجب ان يقفوا مكتوفي الايدي ويتفرجون؟ أم يقع على عاتقهم مهمة كبيرة يجب خلقها؟

دور المثقف في إنقاذ الواقع.
أرى بأن المثقف بقادر على عمل الكثير، على الاقل يقوم بتحريك الماء الساكن بالقاء ما يحركه في البركة الساكنة ويبذر بذور الهداية والرشد والتثقيف في الارض. وحينها لابد من أن تنبت بعض تلك البذور مهما كانت الظروف غير مواتية وبالتالي يكونوا قد حققوا بعض الذي يجب تحقيقه حتى ولو تأخر بعض هذا البعض عن الوقت المناسب. فيجب ان ينظر المثقف إلى الجزء من خلال الكل الموحد ودراسة الامور بشكل عمودي وافقي ومحيطي بحيث يضيء كل الجوانب من خلال تسليط الضوء على الزوايا المظلمة التي لا يصلها النور، ولا تراها العامة بسبب التعتيم والتعمية. المهم هنا أن لا نتوقف عن محاولة التفكير. أن لا يقف على عتبة معينة ويخشى القفز أو الصعود على العتبة التالية. أن لا يقف على ضفة النهر، ويتوقف عن التفكير بايجاد وسيلة للعبور إلى الجانب الثاني ليقف على اكتشاف مكامنها وما تتضمن.
المهم أن لا نقف على سطح عالي ونخشى النظر إلى ماهو في الاعلى من خلال ما كان لنا من أرضية قوية من بناء شامخ بدم الشهداء في الاسفل، يسندنا فيما إذا وقعنا على الارض. المهم أن لا نعجز ونقول ليس بأمكاننا عمل جديد. المهم أن نقف على تجارب الاخرين ونحلل نجاحاتهم ونقاط اخفاقهم في مسيرتهم الناجحة وكيف تخطوا الصعوبات. المهم أن نعدو بدون ملل خلف اية ظاهرة ممكن تساهم في دعم مسيرتنا نحو الامام. المهم أن نعرف بأن الحياة لم تتطور إلا بجهود مضنية وتضحية وسهر ليالي. المهم أن نتعلم من اخطائنا ونعزز من مثابات وتضحيات تاريخنا المشرق، ونتخطى المطبات بعد استخلاص العبر منها. المهم أن نفحص امكانياتنا في مقاومة هذا الكم والكيف الذي تعرضنا له وكيف قاومناه بكل بسالة بحيث بقينا كلوحة تراثية يعتد بها. المهم إذا فشلنا في أمر معين أن نعرف بأنه ليس شرطاً من أن ينسحب هذا الفشل على المجالات الاخرى.
الاكثر أهمية من كل هذا هو أن يجعل المثقف من نفسه ناظوراً ينظر من خلاله الاخرون ليروا الابعد الغير مرئي للعامة وقصيري النظر. أن يصبح ميكرسكوباً ليوسع من حجم الاكتشاف وزيادة مساحة المعرفة وحس الاخر بغير المرئي لعامة الناس. المهم أن يوسع المثقف من نقطة النور ودائرة الاكتشاف لتشع منها الاضواءعلى الخفايا. المهم أن يبرز امكانيات الافراد والجماعات بهدف إشراكهم في جيش التثقيف وتدريبهم على تحقيق المزيد. المهم أن يعمل المثقف على تقريب البعيد ليكون في متناول الجميع. وعليه في جميع الاحوال أن لا يستسلم ويقول بأننا غير موجودين. إذن هذا هو مقدار الاهمية العظيمة التي يضطلع بها المثقفين في اداء دورهم واختراق الطوق المفروض على مجتمعاتهم لمئات السنين وتنوير وتبصير الآخرين بأدوارهم وإشعارهم بامكانياتهم، وكيف يكون بإمكانهم تحقيق ما لا يستطيع غيرهم من تحقيقه. فمحصلة كل هذا هو الجواب لمجموعة الاسئلة التي أثرناها.
فحسب رؤايا المتواضعة، ولكي نضع آلية ناجحة لمعالجة هذه الامور لابد من التفكير بتغيير الواقع من الاساس بدراسة واقعية بحيث تتحمل البنيان، وأن أولى خطوات هذا البنيان هو توحيد الخطاب على أكثر من صعيد. وإني لمتفائل بما تم تحقيقه على مدى السنوات الماضية من غربلة وبلورة للأفكار بهذا الاتجاه، وتنضيج تلك الافكار حتى توضَّح الكثير مما كان يجب تجنبه وتحاشيه لحساسيته، أو لعدم مواءمته مع الواقع الجديد، وتكثيف العمل على ما نصع وبان معدنه الاصيل وتطهّر من الادران.
فكان بحث الزميل الفاضل هوشنك هو بمثابة الاتفاق على توحيد الخطاب مع ما سبقته من أفكار ولو بشكل غير متفق رسميا، ولكنه جاء بافكار سيكون لها مستقبلاً الكثير من ردود الافعال، وهو بحاجة إلى إقترانه بفعل عملي. وكانت للمبادرة التي اطلقتها مجموعة من مثقفي المهجر في السويد بتاريخ 17/ 1/2009، والجلوس على مائدة النقاش وترتيب الوضع حسب الاولويات ومناقشتها من حيث يجب أن تناقش الأثر الطيب في نفوسنا كبدايات لتوحيد الخطاب وإحدى أهم اللبنات الاساسية. كما جاءت المبادرة العملية الاولى في هذا المسعى من الأعزاء إيزيديي سوريا في المهجر من خلال الدعوة التي أطلقها الزميل الفاضل داود ناسو والاستجابة السريعة لتلك المبادرة الناضجة والناجحة لأنها كانت تستحق الاهتمام لأهمية ما ورد فيها من أفكار مدروسة بشكل رصين ومبوبة بحيث يُقبَل ما ورد فيها من افكار، ونتمنى لهم كل النجاح والسعي للمزيد، وتحقيق الخطوات في توحيد الخطاب الايزيدي، واعتبارها لبنة أخرى في هذا المسعى. وكذلك ما وضحه بعض الزملاء قبل ايام حول الملابسات التي دارت بخصوص عقد مؤتمرات كان من الممكن الاستفادة منها بشكل أكثر عملي فيما لو كانت الافكار متوافقة بترتيب أكثر دقة. إضافةً إلى العديد من الافكار والدراسات والمبادرات التي ساهمت بفعالية كبيرة في بلورة الرأي العام والشد بهم نحو توحيد الفكر والخطاب. فجميع هذه النقاط تبشر بقرب توحيد ذلك الخطاب الذي انتظره الجميع، وفي رأيي لايمكن لأي خطاب موّحد أن يرى النور إلا من خلال مجموعة من المثقفين الليبراليين المستقلين إنسانياً.

ترتيب الواقع عملياً.
إن من أكثر الأمور التي يجب التأكيد عليها هو أن تبدأ كافة الجهات بترك الخلافات الشخصية جانباً، والتضحية بالبعض من أجل الكل. ووضع أسس سليمة لنقاش هادف باتجاه توحيد الكلمة مهما كان نوعها، لأن الاساس بدأ بالفعل ويحتاج فقط إلى توجيه ووضع العربة على السكة، مع بعض قليل من نكرات ذات لصالح العام. فالمهم أن يكون المثقفين موحدينً حتى ولو كان سلباً، لأنه حتما سيصبح إيجابيا في يومٍ ما في المستقبل. ومن فهمي لواقع المجتمع الايزيدي فإنه جاهز ومتلهف ليرى مجموعة من المثقفين يهمهم مستقبل المجموع ليقفوا بجانبهم متى ما رؤوهم يعملون بنزاهة لتحقيق هدف متفق، وما جرى في الانتخابات الاخيرة خير دليل على كلامي. وأنه لديهم الاستعداد للتضحية من أجل تلك الافكار بعدما فقدوا كل الامال في القيادات الدينية والعشائرية والسياسية. وأصبحوا على يقين تام بأن الخلاص الوحيد هو يجب أن يكون على أيدي المثقفين رغم الاحباط الذي سببه السلوك السياسي لبعض المثقفين الذين سعوا وراء تحقيق مصالح شخصية على حساب العامة. ولكن ولكي يعزز المثقف تلك الثقة التي يوليه المجتمع عظيم الاهمية، عليه نرى بأن الخطوات التالية جديرة بالدراسة والاهتمام:
العمل الجاد والسعي لبناء مؤسسة دستورية بشكل عصري والتقليل من صلاحياته الحكم الفردي بحيث تتبوء رئاستها مجموعة مثقفة ونزيهة ومستقلة سياسيا، على الاقل رئيس المؤسسة يكون مستقلاً. مع الابقاء على كامل الاحترام والمكانة التي يتبوءها سمو الامير وبقية الرموز من الامتيازات المادية والمعنوية والاعتبارية.
أن تتحمل النخبة المثقفة المسئولية الاخلاقية والمهنية وتنطلق من واقع المجتمع ومعاناته ودراسة تداعيات واسباب تخلفه والعمل على ترتيب اولويات التخلص منها بعد تقديم دراسات ميدانية عن واقع الحياة عامة، وواقع المرأة بشكل خاص لأهمية دورها الحيوي في تنمية الاسرة وتنشئة الاجيال.
العمل على رفع كفاءة المجتمع من خلال التركيز على واقع التعليم لأنه لا يمكن أن يتقدم اي مجتمع مالم يعمل على الاهتمام بالتعليم كأهم عنصر في التنمية بكافة اشكالها.
التعاون الوثيق مع المديرية العامة للأوقاف التي يرأسها السيد الفاضل خيري بوزاني لأهمية ودور هذه المديرية الحيوي في رسم مستقبل المجتمع الايزيدي، مع التاكيد على تشريع قانون الاحوال الشخصية.
العمل الجاد على تفعيل وتنمية دور المجتمع المدني والانفتاح من خلاله على العالم الخارجي والاوربي بشكل خاص، لجلب انتباه الراي العام على معاناتنا.
أجدد الدعوة لعقد مؤتمر فعّال ومستقل سياسيا وبتمويل من تبرعاتنا الشخصية فقط لكي نستطيع ان نتخذ بعض القرارات المستقلة وهي بالتاكيد لن تكون بالضد من المصالح السياسية للاحزاب العاملة في المنطقة، بل سيكون المؤتمر داعما ومساندا لها. وتوضيح الواقع السياسي والعلاقة مع الاحزاب الكردية بشكل واضح وبشكل رسمي ومتفق عليه ووفق مطاليب مشروعة تستحق تضحيات الايزيديين ونسبتهم في النسيج الكردستاني لتبديد اي ملابسات شخصية أو حساسيات جانبية وتكون جميع العلاقات على اساس الاحترام المتبادل وتبادل المنفعة على أساس الرؤى المشتركة.
ومن الله التوفيق

علي سيدو رشو
القاهرة في شباط/

2009





لماذا تخلّف الايزيديون؟8

كغيرهم في عراق اليوم، بدد الايزيديون الكثير من المساعي والجهود في خلافاتهم حول مفاهيم فرعية لا تمس جوهر العقيدة وحقيقة معاناتهم، وانقسموا بسبب ذلك إلى فرق تتبادل الإتهامات فيما بينها. بينما كان الآخرون منشغلين بالتحضير لبناء مستقبلهم وتحسين مستوى معيشتهم وتعليم أبنائهم وتنمية اقتصادهم ووأد خلافاتهم. فالخلافات السياسية أدت إلى مزيد من الاختلاف والانقسام والانشقاق والتبعية وبالتالي إلى نوع من (التخلّف الفكري)، وارتد بتأثيره السلبي على البناء والتنمية والحياة الاجتماعية. وفي الوقت ذاته، أدت الخلافات الدينية إلى مزيد من الانقسام والاختلاف في بعثرة الافكار وتشتتها مما اصبح من الصعب لَم الشتات بعد أن اشتركت عوامل الاختلاف السياسي في الاستحواذ على الجوانب الفقهية والفكر الديني والثقافي والتنموي. فقام كل من الكاتب التاريخي، وكذلك الباحث التراثي، ومن ثم المسئول السياسي، فالرجل الديني بكتابة النصوص الدينية وتفسيرها بما يتماشى مع توجهاته الفكرية والثقافية ومصالحه السياسية، وما يراه مناسبا حسب معرفته وتحليله الشخصي، متناسياً ما قد ينجم عن مثل هذه التصرفات، وما يترتب عليها من سلبيات بسبب إطلاع الآخر على تلك الافكار وما يراه من تخبط في الرؤى والتفاسير.
ومن بعض ما حصلت من ذلك الكم من الأخطاء وبذات الحجم، هو ما نتج عن المقابلات التي اجرتها بعض الجهات الاعلامية والبحثية مع أشخاص يحسبون على الوسط الديني أو الثقافي أو السياسي. ولاحظنا مقدار ومخاطر الفهم الخاطيء الذي ورد في تفسير بعض تلك الفقرات التي تضمنتها مقابلاتهم سواء جاءت التفاسير حسب فهمهم وتحليلهم الذاتي، أم بناءً على ما توصل إليه الباحث أو الكاتب حسب الاجتهاد الشخصي بعد أنتهاء المقابلة. ومن أخطر ما يمكن أن تحصل من الاخطاء، هي تلك التي يتم بها تحليل الفقرات التي ترد في الايات أو الكلام الديني المتعدد الاوجه وتفسيره ماديا بعيداً عن مقصده الروحي الصحيح. فكم من أخطاء قاتلة جاءت في تفسير بعض الفقرات التي وردت في كتاب السيد أنس الدوسكي جراء المقابلات التي اجراها مع رجال دين. وكان مثل تلك الاخطاء ايضا قد جاءت في كتاب السيد آزاد سعيد سمو، وأن ما ينشره البعض مع الاجانب فيه من الغرابة والخطورة ما لايمكن وصفه بسبب اخطاء يرتكبها الشخص الايزيدي بحق نفسه وتاريخه. وأخرى بسبب الترجمة وكذلك الافهام الخاطيء وقد وجدت الكثير مما أجراه البعض من مقابلات وبالتالي نسبت إلى الدين والدين منها ومنهم براء، وإنما هي عبارة عن عادات اجتماعية متفق عليها في منطقة محدودة، وهي غير موجودة في المناطق الاخرى لسكنى الايزيدية. فقد جاءت العديد من الاخطاء الفاحشة في مقابلات أجراها Kim Piper ونشرها في مجلة المصري اليوم الناطقة باللغة الانكليزية في ديسمبر 2005، بخصوص اللون الازرق ونهب الفتيات، واستخدام المشط، وذوي العيون الزرق وخلاص الايزيدية من العبودية، ووصف الانبياء، وكون آدم كان إيزيدياً، وأن الايزيدية هي نسخة من الزرادشتية وغيرها الكثير الذي لا يمت إلى الحقيقة باية صلة.
ف لغة الفقه والدين ليست بالسهولة التي يمكن لأي كان أن يفسرها، وهي قد تعني في المفهوم العامي بعض ما يوحي إلى المعنى الدارج، ولكن في الحقيقة فإن المحتوى والمضمون والمقصود شيء آخر مختلف تماما. والذي بدا لي، وخاصة بعد فترة الاحتلال وتحرر البعض من بعض ماكان يخشى قوله في السابق، أصبح لكل واحد حرية النطق بما يحلو له وحسب فهمه وهو في غياب المفسرين يعطي لنفسه الحق في التفسير. وأن أغلب التفاسير جاءت مع توجيه تغطية الدين بغطاء قومي كأن يقال بأن الايزيدية هي إحدى الديانات الكردية، أو الاختلاف في نسب الشيخ عدي، أو تغيير التسمية من يزيدية (التسمية الاولى) إلى (إيزيدية حسب الغالبية وأنا منهم، وإيزدية حسب البعض، أزدية حسب الدستور العراقي وموقع صوت كردستان، أزيدية حسب البعض الاخر، وفي الاخير أذيدية مقالة دومام آشتي المنشورة في صوت كردستان في 22/1/2009على خلفية زيارة السيد رئيس اقليم كردستان إلى لالش، الكرد الايزيديين حسب المفهوم السياسي). لاحظوا مقدار الاخطاء التي ساهمنا في خلقها كعراقيل أمام تقدمنا بمحض إرادتنا. فنحن الذين نتهم رجال الدين وشيوخ العشائر بالتخلف ونطلب منهم تصحيح الامر، ولكننا نحن الذين نخلق من الاسم الواحد سبعة اسماء، فما قيمة ثقافتنا اذن؟.
قد نحتاج لعقد أكثر من مؤتمر موسع لكي نصحح تسميتنا ويعرف الاخر بماذا يسمينا، وتحت أي من هذه التسميات يخاطبنا؟ هكذا إذن سسنضيع، وهكذا ايضا سنبدد ونضيّع جهود الابطال الذين ضحوا بدمائهم وأموالهم من اجلنا، وهكذا سيستفيد الاخر من ارباكنا وتشتتنا حول مفاهيم مغلوطة بتعمد وبشكل خاطيء لتسير عكس الزمن. لذلك نحتاج إلى عقل يفكر بطريقة جديدة، أكثر استيعاباً، واكثر واقعيةً، ويأخذ بيد الاجيال ليفتح الباب واسعا امام الامل والمستقبل وخلق الثقة في النفس بدلا من تكريس الانهزامية والخنوع التشتت.
وفي الحقيقة أرى بأن الواجب يحتم علينا جميعاً بأن نترك أمر التفسير، وكذلك الاجتهاد في التفسير لمن هم أقدر منا على تحقيق ذلك. وأجد في محاضرات الباحث الفاضل حسو أومريكو عمق التحليل والتفسير في بعض ما يذهب إليه في سلسلة محاضرات بالتعاون مع مكتبة حنا أرنولد. وأن هذه التفاسير قد تعطي للباحث النزيه الكثير من الرموز التي يحتاجها في البحث الرصين، على الرغم من أنها لا تخلو هي الآخرى من تاثير اللهجة وتضخيم الصوت احياناً. مثلاً، يذكر في المحاضرة الثانية اسم الجلالة تحت مسميين اثنين؛ مرة يذكر بلفظ Pasaye وأخرى يذكر نفس الذات وفي نفس السطر تحت اسم Padsa. كذلك عندما اتى على ذكر اسماء العناصر قال: Ax, Av, Ba u Are هنا، المعني بالاسماء المذكورة هو التراب والماء والهواء والنار، وأن النار في الكردية تسمى (آكر)، وليس (آر) وفي الحقيقة هذا سوف يربك الباحث الكردي قبل العربي في فهم ونقل وتفسير المفردة، بينما الباحث العربي لا يفهم معناها على الاطلاق، وقد ينقلها بشكل مغلوط او في افضل الاحوال لا يعلم المقصود بهذه الكلمة مما قد يقع في حيرة من تفسيرها. كذلك يمكن أن يبرز الكثير من الاختلاف في المعنى لمجرد تحويل (السبقة، أو المقطع أو النص الديني) من العربية إلى اللاتينية من حيث تصوير الكلمة واللفظ وتضخيم الصوت. عليه، يجب التعامل مع النصوص الدينية بحذر شديد سواء من قبل الباحث، أو من قبل الشخص الذي يقابله الباحث لأخذ المعلومة منه صوناً للأمانة لكل من البحث والباحث على حد السواء.
فالمشكلة الاساسية في هذا الشأن هي أن الخطأ في هذا التصرف يمتد لعمق زمني طويل، ولم يتم معالجته في أي مرحلة من ذلك العمق الزمني، مما أضاف مع تقادم الزمن أتعاب على ماكانت موجودة في السابق. وأن هذا الاهمال خلق جماعات متطرفة في الفكر المتشدد وبالتالي سريان فعل هذا التشدد على الاجيال الاخرى التي حرمت من التعليم والاختلاط وتنوير الاخر بماهيته بسبب ذلك الكم من الاخطاء وعدم التعامل معها بواقعية وفرز الجوانب المادية عن الروحية. فإلى حد قريب كانت بعض القبائل (الجوانا مثلا)، لم تقبل أن تتزوج من القبائل الاخرى (الخوركان مثلا)، على أساس انهم أرفع منهم شأنا في تطبيق الدين، أو أن الخوركان في نظر الاخرين اهتزوا أمام الحملات العسكرية وقبِل بعضهم بالدخول في الاسلام تحت الضغط أو المغريات المادية. أو قد يتصورالبعض الكثير الان بان النظام الطبقي (الشيخ، البير والمريد)، هو العائق الاكبر أمام تقدم الايزيديين، وأن الخلاص من هذه الاشكالية المتراكبة هي الحل للكثير من المشاكل الاجتماعية التي تحصل الان. بينما يراها اخرين بانها حافظت على الوجود الايزيدي لحد الان وأنها العامل الاقوى في الحفاظ على ديمومته وبقائه واستمراره. هذه الاختلافات في الرؤى حول مفهوم فكري واحد أبقت الباب مفتوحاً على أكثر من احتمال أو مجال سواءً للمناقشة أو الاستبداد بالرأي أو الوصول بالبعض حد التطرف. إذن باختصار تأخر الايزيديون لأن القيادات الدينية والعشائرية هي قيادات أمية وغير قادرة على فك هذه الرموز بعناية بحيث تحافظ كل منها على حيويتها وبقائها، وفي الوقت ذاته خشيتهم من بروز دور المثقفين الذي قد يهدد مكانتهم ووجودهم ومركزهم الديني والاجتماعي. وعلى هذا الاساس نستطيع القول بأن النظام الحالي في إدارة دفة الحياة للمجتمع الايزيدي قد اثبت فشله بامتياز، ويستوجب أن تنهض الطبقة الواعية بدراسة واقعية وبتعمق في فرز الاحوال عن بعضها دون المساس بكرامة جهة معينة وباسلوب حضاري يتماشى مع تطبيق الفكر الجديد على الواقع بعد تشخيص الخيط الاصيل الذي يربط قديمه بجديده. فليس كل قديم هو متخلف ويجب تخطيه، وكذلك ليس كل جديد يمكن فرضه على الواقع بدون تهيئة وتنمية المجتمع للقبول به بحيث يستوعبه ويهضمه عن معرفة، وليس اجتراره وتكراره آلياً. ومن الله التوفيق.

علي سيدو رشو
القاهرة في 18/2/2009
لماذا تخلّف الأيزيديون؟9
للتعبير عن مفهوم التخلف هنالك أوصاف وتسميات وتعابير كما لكل ضرب من ضروب الحياة الاخرى. فقد يأتي تحت تعبير الأمية الثقافية، أو تحت عنوان أمية الجهل بالقراءة والكتابة، أو سيطرة الفكر السلفي الذي يشد بالانسان إلى الوراء، أو قد يقال عنه تحت مسمّى البؤس الثقافي وشيوع الكسل والشلل الفكري. إلى غير ذلك من التسميات والنعوت التي تفتح الباب على مصراعية ليتسلل منه الفكر المتخلف إلى جسم المجتمع ويسيطر على مفاتيح حياته، ويستقر فيه إلى حين أن ينتبه هذا المجتمع ويعظ الأصابع، حيث لا ينفع معه الندم.
إن جميع هذه القنوات تحقق ذات الهدف بالنسبة للطبقات الحاكمة الغير أمينة على مصالح الناس، خاصة في المجتمعات العشائرية التي تحاول ترسيخ مفاهيم التخلف بشتى الوسائل لكي تبقى وتتمسك بمفاتيحها. فهي تستطيع وبكل سهولة أن تستثمر من هذه الحالات كطرق فعالة للوصول إلى غاياتها من حيث الاعتماد على الرموز الاجتماعية والدينية التي لا تفقه من الحياة سوى مصالحها الضيقة. وبذلك فمن السهل قيادة الطبقات الحاكمة لتلك الرموز عن طريق العزف على وتر مصالحهم الذاتية وتنميتها على حساب عامة الناس وحقوقها. وبدورها فإن الرموز الاجتماعية الحاكمة بدلا من القيام بدور التنمية والارتقاء بمجتمعاتها، فهي تحاول تكريس الامية والجهل لسهولة الانقياد وتسخير طاقات الناس لمصالحها الضيقة وبالتالي تحقيق هدف الحكام أو الانظمة (مهما كان نوع الحكام أو الانظمة)، وهكذا تتشكل حلقات التخلّف في داخل بعضها البعض.
ف تحت سيادة الامية بين افراد المجتمع يفتقر الشخص الامي إلى وسيلة الاتصال المتمثلة في القراءة والكتابة مما يجعله منعزلاً عن إدراك ما يدور في محيطه من تيارات ثقافية وبالتالي يعجز عن تكوين رأي أو ايجاد نقطة ارتكاز يتكأ عليها كمثابة للإنطلاق منها نحو هدف معين. مما يجعل من مجتمع بهكذا مواصفات مجتمعاً مستمعاً فقط ليس له رأي أو مشاركة في صنع القرار والحياة، ولا يفقه سوى ما يفرض عليه من تعليمات وارشادات ووعود، تحقق مصالح الغير وتنمي ذاتهم على حساب الآخر الأمي وهم بذلك يسخرون امكانيات وكفاءات الآخرين لصالحهم.
والوجه الاخر من التخلّف الثقافي-الاجتماعي يُفَرِخ جَهَلة من نوع آخر، فيصبح الوضع معهم أكثر خطورةً وتعقيداً وخاصة عندما يلجأون إلى العنف مستخدمين سلاح الدين على الاساس السلفي والفكر المتشدد والمتعصب بتجريم وتكفير المقابل المختلف. هذا الفكر المتعصب يجعل من الانسان بأن لايقبل الاخر، فارضاً فكره ورأيه الغير قابل للنقاش وابداء الرأي تحت غطاء الدين وإنه من وحي السماء والقيم العليا، سواء كان جهلاً أو تعمداً، مما يتشكل حوله وبسرعة كبيرة مجموعات من نفس الفكر المتشدد وتتسع دائرة افكارهم الوهمية بين الوسط الجاهل بسرعة النار في الهشيم. وهي في الحقيقة تعد من أخطر الحلقات التي تشكل تحديا للمتنورين، وتستنزف من جهد وطاقات وأفكار المفكرين وتعرقل دورهم في التنمية المجتمعية بجميع اشكالها.
فالعجز عن فهم المشاكل، وتحديد اسبابها ومسبباتها وبالتالي مسايرة ما يطرأ على حركة المجتمع من متغيرات واستيعاب الصحيح من بين البدائل، يعد واحداً من أهم ملامح التخلّف الفكري. وأن إرجاع أكثر الحلول إلى القضايا الغيبية المطلقة التي لا تتقبل التجزئة والتأويل والمناقشة وقبول الرأي المقابل (إسلامياً، تبنى أبن تيمية هذا الفكر)، هي الاساس في ذلك العجز الذي يقف حائلا بين فكرتين متناقضتين؛ إحداهما ترفض بتشدد القبول بالامر الواقع وعدم التأويل واعتبار الوضع القائم إنما هو من الغيب ولا حكم لنا فيه، وعليه لا يجوز التشكيك فيه ومحاولة تغييره لانه من الله. والاخرى التي تقول بأن كل شيء نسبي في هذا الكون وبذلك يمكن قياسه بنسبية غيره لكي نصل به إلى استنتاج عقلاني، والقبول بالرأي الآخر الذي يقبل التأويل بما يحمل لآكثر من احتمال من غير أن يصطدم بالأمر الغيبي، وهو ما قال به الكثير من الفلاسفة والمفكرين، ومنهم المفكر المصري مراد وهبة في تعريف العلمانية بأنها "التفكير في النسبي بما هو نسبي وليس بما هو مطلق"1. فكيف لي أن أتفهم (أعني بأن أسمع رأيه) مع شخص من اليابان إذا لم أتقن لغة (علمية) مشتركة بيننا لكي نتخاطب من خلالها؟ وكيف لي في ظل الامية أن أعرف عن تاريخ الشعوب واقارن ما امتلك من تاريخ مع مختلف الثقافات لكي أحدد مكانتي في الانسانية؟ وكيف يمكن كتابة تاريخ الشعوب من غير امكانيات ثقافية تستطيع إيصال الافكار وربطها بالبعض ليستطيع القاريء الأجنبي أن يفهم ما يرد فيها؟ وكيف يمكن نقل ثقافات وحضارات الشعوب والمجتمعات من دون فكر قادر على ترجمة تلك الثقافات إلى لغة مفهومة؟ وكيف يمكن مقاومة الفكر المتشدد في ظل هكذا مجتمع وإقناعه بان الفكر هو الاخر يتجدد بمقدار تطور وتنمية المجتمع؟ كل هذا يمكن أن يتحقق في مجتمع متعلم يحسن القراءة والكتابة كاساس لأية تنمية وخاصة المثقفين وتطوير امكانياتهم لانها تعتبر الالية التي بواسطتها يستطيع الانسان من التمييز بين هذه وتلك.
صحيح لسنا (نحن الايزيديون) بدولة لها كياناتها، وصحيح ليست لنا مؤسسات علمية تقوم بنشاطات علمية كالاحصائيات عن عدد السكان وحجم ونوع القوى العاملة، وحجم الاستثمارات، ونسبة الامية من بين الفئات الاجتماعية، ودور المرأة، وعدد المدارس بالنسبة لعدد السكان، وعدد الاطباء بالنسبة لعدد الاشخاص، وعدد التلاميذ إلى عدد المعلمين، ونسبة مساهمة النشاطات الخدمية في التنمية بمختلف اشكالها. وبالمقابل ليست لنا الامكانية في بناء الجامعات التي تعتبر الاساس في خلق الفكر وصناعة المفكرين وبناء العلم من خلال تخريج الكوادر العلمية والاقتصادية والسياسية التي لها الريادة في قيادة الفكر ونهضة المجتمع على الاساس العقلاني والعلمي المبني على أسس العلوم الانسانية والتطبيقية، وبالتالي فالكوادر هم القلة التي يمكنها أن تقود قاطرة التقدم في المجتمعات نحو الامام. وفي هذه الحالة، فإن نزول العلم والمعرفة من الجامعات والمدارس والمراكز العلمية والبحثية إلى الشارع لتتلقفها العامة وتتعامل مع نتائجها وتقطف من ثمارها هي التي ترفع من مستوى الوعي وتكوٍن لغة التخاطب العامة بمفاهيم مجتمعية، وتصبح الاشياء مفهومة وواضحة بلغة ومقاييس علمية بدلا من الفهم العشوائي.
صحيح ايضاً بأنه لم تسجل حالة علمية فريدة ومتميزة من بين المجتمع الايزيدي، إلا أنه هذا لايعني بأنه لا يمكن تحقيق ذلك متى ما توفرت الظروف الصحيحة، أي أن الايزيدي ليس إنساناً عاجزاً عن القيام بدور الريادة في المستقبل إذا ما توفرت الفرص أمامه. فعلينا إذن في أن نخلق الفرص ونهيء الكوادر التي تحمل من تلك النبرة للمستقبل من خلال مجموعة من البدائل كأن يقام إلى تاسيس صندوق للتبرعات، وتقام مهرجانات سنوية لفحص الكفاءات، وتشجيع المبدعين وخاصة من الجيل الناشيء وارسالهم للدراسة في الجامعات الاجنبية لخلق كادر إيزيدي قادر على التاثير في الوسط الرسمي. فالصراع اليوم هو غير الصراع الذي كان قبل خمسين عاماً من الان. وبكل بساطة فإن العلم والمعرفة ستحلان محل كل المفاهيم القديمة التي لم تعد قادرة على مواجهة الحياة بتعقيداتها المدروسة. وأكثر ما نحتاجه الان هو باحثين في مجال الآثار والتاريخ، وكوادر في القانون الدولي والدستوري كاختصاصات مهمة لها الاولوية، وهو قد بدأ بالفعل حيث يدرس الآن عدد من السادة منهم؛ صائب خدر يدرس القانون الدولي في الهند، والسيد عيدو خاموكا في العلوم السياسية من معهد اليسكو في القاهرة، والسادة سامان سليمان وسعيد بير مراد وقولو خديدا، للحصول على الاختصاصات في القانون الدولي والدستوري. وقيصر خلات الذي يدرس الاثار في الاردن، كنماذج وآخرين ممن لم نذكرهم بالاسم (عذرا لهم لاننا لا نمتلك عنهم قاعدة معلومات)، فنشد على ايديهم ونتمنى لهم النجاح والتفوق.
وبما أن عمر وحيوية الشعوب يقاس بمدى التراكم الحضاري التي تمتلكها على فترات زمنية متواصلة من ذلك الارث الثقافي، لذا فإن نصيب المجتمع الايزيدي من ذلك العمر ومن الفرص والامكانيات التي توفرت امامه كان قصيراً بسبب الثقل الكئيب الذي تراكم بتأثير حملات الابادة التي لم تُبقِ على أثر سوى ماجاء في الادب الشفاهي سواء على مستوى الدين والفقه. أو على مستوى تراكم التراث التقليدي والحضاري الذي نلمسه الان في التراث الشعبي عبر الحكاية والرواية، أو من خلال الاغنية التراثية في مجالات الغزل والرثاء والبطولات.
لقد تخلّفنا كما هو حال غيرنا من المجتمع المحيط، وكان سبب تخلّفنا الاساس هو أننا لم نبحث في عمق الاسباب الحقيقية التي كانت تتفاعل وتأخذ بنا إلى ما نحن فيه اليوم. ولم نتعامل، ولغاية اليوم مع الاسف، مع القضايا الاساسية التي كانت ولا تزال تتصارع في القعر إلا من خلال السطحي منها وما يطفو من نتيجة ذلك التفاعل. فَمُحيت مئات القرى الايزيدية من الوجود في تركيا، وشُرِد أهلها وتوزعوا مابين العراق وسوريا وأرمينيا واوربا تاركين وراءهم أملاكهم وأراضي أجدادهم للغير وهم يملكون الأوراق الثبوتية. وهناك العشرات من القرى الايزيدية في سوريا تتحول إلى الاسلام رغماً عنهم سواءً عن قصد عنصري، أو عن طريق خطأ أقترفه بعض الكتّاب بسبب الجهل والامية في ستينات القرن الماضي وخاصة في منطقة عفرين من اعمال حلب. وما لحق بنا من مجازر دموية يشيب لها الرأس في العراق وخاصة في فترة الحكم العثماني، وكذلك ما تلا كل هذا من خلال تنفيذ سياسات عنصرية أدت بنا إلى واقع حال لا يتمناه العدو قبل الصديق بسبب التشرذم والاختلاف وكأن الذي جرى هو شيء من الصدف أو لا يستحق البحث والوقوف عنده وتحليله، ونكتفي بما هو جاري الآن من ظواهر مرتبطة بالوضع الاني دون أخذ عِبر التاريخ بنظر الاعتبار. فمتى إذن سنطالب بمستحقاتنا المسلوبة جهاراً؟ ومن هو المعني بتلك المطالبة؟
إننا بهذه الحلقات المتوالية من هذا الجهد المتواضع، نريد أن نثير ونسلط الضوء على ما أدى بنا من الاسباب إلى ما نحن فيه اليوم، وكذلك نسلط الضوء على ما يمكن تصحيحه وأنتشاله الآن، ومن ثم نبني على الصحيح منه استراتيجية مستقبلية تستوعبنا في ظل المتغيرات العملاقة في عالم اليوم. ولا ننكر تخوفنا من الانهيار والذوبان والتلاشي في الآخر، في حال الاستمرار في الوهم، واهمالنا لواقع حال مجتمعنا الحالي. وهنا لا أخفي تخوفي مما جاء في المثل الانكليزي القائل بأن "ترمى الكلمات في أحذية المعاني". وإنما أتمنى أن يتفهم المتنورين من المجتمع الايزيدي بأهمية ما قاله الفيلسوف الشهير سبينوزا عندما قال "إذا وقعت عظيمة فلا تضحك ولا تبكي ولكن.... فكّر". فكم عظيمة جرت على رأسنا ولم نفكر فيها؟ وهل آن لنا أن نفكر بعقل ونقف وقفة تأمل لما جرى، ونحدد موقعنا مستفيدين من الاوجاع والمعاناة والاوضاع كما هو حال غيرنا؟ أتمنى ذلك، وعلى المتنورين يقع العبء الاكبر من ذلك القدر. ومن الله التوفيق.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1: مراد وهبة، مؤتمر تاسيس العلمانية في مصر، الندوة الاولى، أول مارس، 2006

علي سيدو رشو
القاهرة في 9/3/2009

لماذا تخلّف الايزيديون؟ 10
بعد سلسلة مقالات في شأن تخلّف الايزيديين، وكثرة الحديث عن الاصلاح والتغيير والمطالبة بإحداث تغيرات جوهرية في الواقع الايزيدي الراهن، سأحاول في هذه الحلقة التركيز على عمليتي التغيير والاصلاح، ومدى مساهمتهما وتاثيرهما في الابقاء على الواقع الحالي في تخلّف المجتمع الايزيدي كأحد مكونات النسيج الإجتماعي في المحيط العربي والاسلامي والعالمي. ف "الاصلاح والتغيير ، مصطلحان كبيران او هما ثنائية حضارية مهمة تشكل احدى آليات النهوض الحضاري للامم. ذلك ان الاصلاح والتغيير هما فعلان ينتجان عن فكر يسبقهما، يمتلك رؤية استشرافية، فيهيء مستلزمات الاصلاح ويحدد ادوات التغيير، ليبدأ جدل آخر بين الحالة الجديدة التي ستهيء لفكر جديد من اجل نهضة جديدة"(1). إن آليات الاصلاح والتغيير متعددة بتعدد الافكار والمناهج الكبرى التي غيرت مسيرة الانسانية عبر التاريخ. فهناك الاديان السماوية ورسالاتها وما بينت للبشر من علامات الاصلاح وسبل التغيير واخلاقياته ووسائله. وهناك الفلسفة التي قدمت مشاريع نهضوية كبيرة اسهمت في مسيرة الاصلاح والتغيير الحضاري. وهناك القوى السياسية والاقتصادية والاجتماعية القومية والوطنية التي قدم مثقفوها لبنات العديد من المشاريع النهضوية.
إذن، عملية الاصلاح والتغيير وبالتالي التطوير، أصبحت مهمة الجميع ومن ضرورات الوضع القائم إيزيديا، ويجب أن تكون عملية شاملة في مجالات الحياة كافة منها الاصلاحات الاقتصادية، ومنها الانفتاح السياسي، تمكين المرأة، الاصلاحات الاجتماعية ومن ثم إصلاح التعليم والتربية، يضاف إليهم الاصلاح في التركة الثقيلة لواقع التراث الديني وملابساته وما رافقه من تشويه وتداخل و(التحريف بشقيه المتعمد والفطري). فالموضوع إذن إليس فقط تبديل أشخاص محل آخرين، أو استبدال مواضيع وخطابات محل أخرى، وإنما الاصلاح ومن ثم التغيير يجب أن يشملا جميع النقاط التي ورد ذكرها وبهدوء وعقلانية بحيث تستوعب التطور وتتماشى مع الواقع. فإذا كان سابقاً يتم التغيير بسرعة معينة، ويعقبه إصلاح لفترة طويلة أو يبقى الامر بدون إصلاح، فإن الواقع الآن خلاف ذلك لأن الاصلاح، فيجب أن يكون متواصلا ومتجاوباً مع الافكار الجديدة والتطور الديناميكي للحياة. وهنا يجب علينا وضع خطوط عريضة لعملية التغيير والاصلاح وليس أن نحددها بأطر ليس لها القابلية على النمو في محيطها ولا تستطيع التفاعل مع متطلبات التجديد. ويجب أن نعلم كذلك، بأننا نعيش وسط مجتمعات تحكمها قوانين وتعليمات نتأثر بها سلباً وإيجاباً، وبما يحصل فيها من نجاحات واخفاقات وندور في فلكها مرغمين، أي ليس لنا فيها حتى المشورة والرأي كبرامج التعليم والنظام القضائي والتخطيط الاستراتيجي. وفي هذا الصدد علينا أن نوجه لأنفسنا بعض الاسئلة الملِحة وهي: لماذا نجري التغيير وماذا يجب أن تكون اولويات هذا التغيير، وفي أي مفصل بالذات يجب ان يحصل التغيير؟ هل نمتلك العدد الكافي من الكفاءات المؤهلة في المجالات التي تم ذكرها لعملية التغيير المطلوبة؟ هل تمت دراسة الامكانيات على ضوء التفاعل مع تجارب الآخرين من خلال الاراء والمناقشات والمقترحات الضرورية لعملية التغيير والاصلاح؟ وهل فكرنا في كيفية إدامة عملية التغير والاصلاح فيما إذا تحققت؟ أم لازلنا نعتمد على العواطف ونبحث عن مجرد التغيير مهما كان؟ فالمهم أن يحصل تغيير والسلام.
فالامر ليس بالسهولة التي نتحدث عنها في المقالات العشوائية على صفحات الانترنت، وإنما بحاجة إلى جهود كبيرة ومدروسة لأنها سوف تتعامل مع أجيال متلاحقة وفي أزمان مختلفة. فبعض تلك الاجيال عاشت في الزمن الراكد والبعض الآخر يعيش في الزمن الذي يجري بتعجيل، وبالتالي فإننا بحاجة إلى إحداث تغيير في سلوك المجتمع من خلال برامج توعوية وإرشادية مقنعة لكي يقبلها الناس وإلا سنصطدم بالواقع ويرتد بنا الامر إلى الوراء بشكل مخيف، لأن المعالجات في هذه الاحوال لا تحلها الاوامر والقرارات الفوقية، وإنما يجب أن يدرسها ناس على مستوى عالي من الكفاءة والدراية ومن مختلف الاختصاصات التربوية والنفسية والدينية والاجتماعية. وبما أننا جزء من العالم الذي نعيش فيه، ولا نمتلك الاليات في اختيار البرامج التربوية التي نبغي التغيير من خلالها، لذلك فإننا محكومون بما يملي علينا من القوانين والتعليمات من الجهات المسئولة عن سير المجتمع. فالمجتمع حاله حال الافراد يتعرض للفشل والنجاح والاخفاق وفي جميع مراحله الحياتية، لذلك فإن التسرع في التغيير والاصلاح من دون دراسة واقعية سيواجه مشاكل مستقبلية ليس من السهل التعامل معها وحلها بيسر. فالتغيير إذن، يجب ان يكون من الداخل لانه سيشمل جميع مرافق الحياة وبالتالي ليس من السهل انتقاء فقرة معينة وإصلاحها بمعزل عن الفقرات الاخرى، أي أن أي تغيير في فقرة معينة لابد من أن يتاثر، ويؤثر على بقية المجالات بنسبة معينة.
ولكي ننظر في عمق المشكلة التي نعانيها، يجب التفكير بضرورة إيجاد خطاب متميز بالاصالة والجدية والصدق في التعامل مع مطلب الاصلاح كضرورة وكحاجة في نفس الوقت. فلا يمكن للجهود الفردية أن تحل المشاكل لوحدها، وإنما علينا أن نؤسس لفكرة مجتمع مدني يستطيع أن يقوم على اساس فكرة ناضجة عن مفهومي التغيير والاصلاح، وليس من خلال بعض المقالات والطعن في الواقع الراهن. فكيف نقدر أن نعمل تغيير نزيه وبعيد عن الفكر القومي المتطرف أو الفكر الديني المتطرف في ظرف لا نستطيع معه تأسيس منظمة مجتمع واحدة مستقلة بمعزل عن الواقع السياسي؟ وأي فكر يمكن أن ينمو ويتغير ويتطور في ظل هكذا سيطرة لبعض الاشخاص المدعومين سياسياً ولا يهمهم سوى مصالحهم الشخصية والنفعية؟ وأي عمل يمكن إصلاحه في ظل قيادة أمية لاتفقه من الاقتصاد أوالقانون أوعلم الاجتماع أوعلم اللاهوت بشيء؟ وأي تغيير يمكن أن ينجز تحت سيطرة سياسة تريد توجيه جميع المتغيرات والطاقات باتجاه مصالحها السياسية الضيقة؟ وهل أن تحقيق الجانب القومي لوحده كاف لنقول بأن المسيرة باتجاه التغيير والاصلاح قد حققت أهدافها؟ أم يجب أن ينصّب تفكيرنا في الاصلاح بمعزل عما نحن فيه من مجتمع؟ هل حصل التغيير الذي ننشده في المجتمع المحيط بنا لكي نجاريه ونقول بأننا في خطر إن لم نتغير؟ أم أننا فعلا متقدمون عليه من ناحية الانفتاح على الاخرين؟ ماذا يمكن ان نفعل في ظل قوانين ودساتير تقيد اي جانب في الحرية والديمقراطية والتحرر؟ إذن لا يكفي فقط أن نفكر بتغيير واقعنا مالم يحصل تطور في المجتمع المحيط بنا، ولكن لابد من التفكير في التغيير نحو الافضل مهما كانت الظروف والتحديات، فلا يكفي الطعن في الموروث من غير تغيير عقلاني بعيد عن المؤثرات النفعية والسياسية والمصلحية. وتأسيساً على ما ذكر أرى بأن الجوانب الاتية جديرة بالمراجعة لكي نُخرِج الموضوع إلى النور:
أولا: في مجال الدين والتراث.
لقد كثر الحديث عن هذا المجال ، وكتب عنه الكثيرين، وصلت بعضها حد السيف في التعامل مع الموجود، وهم محقون في ذلك نظراً لعدم جدية القيادة الايزيدية في التعامل مع هذا الامر الحيوي بما يستوجب. فكما جاء في البحث الموسوم "مفهوم الالوهية في الحضارة الايزيدية والروآدية"(2). يمكن كتابة التراث الديني في اي وقت في كتاب (عند توفر الارادة)، ويقدم للجهات المسئولة وهو لا يشكل المشكلة الرئيسية للدين نفسه بقدر ما هي مشكلة للتعامل مع الناس في المطالبة بأن الدين الذي ليس له كتاب، لا يعد ديناً متكاملا. وبذلك يمكن اعتبار الدين بأنه ليس من الضروري أن يتم تأطيره بكتاب لأن مفهوم الدين اوسع من ان يوضع في إطار كتاب معين. ولكن الحاجة ضمن الواقع الحالي تتطلب ذلك بجدية وحزم لأن المقابل لا يفهمك إلا من خلال ذلك.
ولو نظرنا إلى واقع الاديان التي تتبنى الكتاب والنبي، فإنهم لايزال يتهمون البعض في التحريف في تلك الكتب وكذلك لازال الفاتيكان لايعترف بالاسلام دينا. وجاء ذلك واضحا في مؤتمر الحوار الاسلامي المسيحي الذي انعقد في اكتوبر 2000 في فندق شيراتون هيليوبوليس بالقاهرة والذي شارك فيه شيخ الازهر الشريف وممثلي الفاتيكان ومجلس الكنائس العالمي والشيخ يوسف القرضاوي. فعند صدور البيان الختامي للمؤتمر، تضمن البيان عبارة: "الديانات الربانية"، وعندها رفض مندوبا الفاتيكان ومجلس الكنائس العالمي التوقيع على البيان لان المؤسسات النصرانية التي يمثلونها لا تعترف – حتى القرن الواحد والعشرين- بالاسلام ديناً سماوياً ربانياً(3)
إذن فالمشكلة لاتحل فقط بجمع التراث الديني في كتاب لوحده، رغم أهميته الفائقة، مالم يتم تهيأة الفكر والارضية الصحيحتين في الداخل الايزيدي ومع المحيط الاسلامي بالدرجة الاساس لاتخاذ موقف من العديد من القضايا وفي مقدمتها الموقف من مسألة أبليس. من حيث أنها مسألة فلسفية نختلف في فهمها وتحليلها عن بقية الديانات، على الرغم من وجود العديد من المفكرين والدعاة والكتّاب المسلمين الذين قالوا بنفس المبدأ الذي يقول به الايزيديون في هذا الشان كما جاء في فكر الامام الغزالي على سبيل المثال، وما كتب عنه العديد من الكتّاب والباحثين.
عندما علت العديد من الدعوات الايزيدية، ب( تحديث الدين)، حيث لا يمكن للدين أن يَتَحَدّث لأنه متطور ذاتيا مع الحياة، وإنما يجب التعامل مع التفسير والمفاهيم التي جاءت بها الاديان، فهي التي يجب أن يتم التفتيش فيها وتجديد التفسير بما يحصل من تطور في الحياة والعيش داخل هذه الحياة وليس خارجها، متصورين بأنها السبب الاساسي في التخلف الايزيدي. فنقول، أن النفس البشرية كمكون في سلوك الانسان لم تتغير منذ أن خلقت البشرية ولحد الآن، وإنما حصل عليها تغيراً معينا بسبب تقدم الانسانية عبر مراحل التطور المختلفة. فاليهودية وكذلك المسيحية والاسلام كأديان لم يسلما من الانتقاد من قبل معتنقيها لغاية الان رغم تكامل اركانها حسب الاعراف المعتمدة (النبي والكتاب)، وأن تلك الانتقادات ليست في محلها لما يتعلق منها بالدين نفسه، لأن نفسية وسلوك الانسان هي التي تغيرت ويستوجب النظر في التعليمات الدينية وتفسيرها بما تحتمل من التغيير في نفس الانسان حسب مراحل الزمن المختلفة. وهذا الحال اصبح أكثر وضوحاً في العديد من التشريعات التي تعاقِب الانسان على الفعل السيء بما هو مستوحي من الشرع الديني في الغالب لأن القناعات الانسانية تغيرت بتطور الحياة وتَطلَب ذلك انشاء العديد من الحلقات الاضافية كالمحاكم وأجهزة الشرطة والامن والاستخبارات والتجسس للعمل على لجم التطرف الذي سببه التطور. فلم يكن للإرهاب هذا السلوك في السابق، ولم يمتلك هذه القوة إلا عندما تم ربطه بالدين واسند القيام به عملا من أعمال الدين ونيل الشهادة والجنة مما أقنع القائمين عليه بأنهم على حق كما يعمل اي داعية في الاصلاح. وبذلك نما وتطور من (الدين)، ما لا يمكن أن ينسب إليه كحقيقة، وإنما تم استثمار الدين كسند لتحقيق غرض سيء من خلال التفسير لبعض الايات والتعليمات، وهكذا هو استخدام اي سلاح فكري. لذلك لا يمكن ان تحل جميع المواضيع بمجرد وضع الدين والتراث الديني في إطار كتاب أو مؤلف معين، لا بل قد يصبح هكذا موضوع مصدراً للكثير من الاختلافات والاجتهادات وبالتالي تأسيساً للمذاهب ضمن الدين الواحد كما هو حاصل في جميع الديانات المركزية.
وما يجري الآن من حديث، وما تصدر من دعوات من قبل بعض مثقفي الايزيدية في الاصلاح الديني لا يعد في رأيي إصلاحاً بقدر ما هو هدم للبنيان وتركه يتخبط في عشوائية مرتبكة وغير موفقة لكون أن هذه الدعوات، إما تأتِ بحل لايحقق المطلوب، أو بدعوة ذات توجه سياسي. فلا يمكن بناء الهرم من قمته، ولايمكن ردم بناء تاصل في عرف المجتمع سواء منه مرتبط بالتراث الديني أو العرف العشائري والقبلي بتلك السهولة ما لم يأتِ القائمين عليه بالبديل المقنع الذي يحل المشكلة من اساسها وإلا لماذا التغيير؟ فلقد غيّر الجيل الجديد في الوقت الراهن الكثير من الامور والمفاهيم التي كانت تعد من الخطوط الحمر من غير الحاجة إلى إصدار تشريعات بحكم الضرورة ومنها على سبيل المثال حلق الشنب، اللبس، التعامل مع بعض الحالات كأكل بعض الممنوعات في السابق وغيرها. فليس كل شيء يحتاج إلى تشريعات لكي يحصل فيها تغيير ولكن التطور كفيل بإذابة ومحو ماهو غير أصيل، بل أحيانا كفيل بتغيير الاساسي ولكن يتوقف ذلك على مدى فهم الطبقة المثقفة وحماية المجتمع من مثل تلك الانهيارات. فالإصلاح ومن ثم التغيير يجب أن لا يكونا في الفقرات التي تلحق الضرر بصلب الدين وبالتالي يطعن في الدين من خلالها كونها الحلقات الاضعف في تكوين التراث الديني. وفي قناعتي فإن التحدي الان يتمثل في قضيتين اساسيتين، هما؛ التحدي الحضاري بإبقائنا متخلفين في وسطنا المتخلف (أي أن نبقى متخلفين داخل هذا المجتمع المتخلف الذي يرانا بعين واحدة). والتحدي الثاني هو التحدي السياسي، الذي يسيطر على الواقع بحيث يعمل على تجميد وتحديد اية حركة، وأي تحرك خارج الاطار المرسوم حسب مقتضيات مصلحية. ولاجل أن نوضح فكرتنا لابد من الاشارة لبعض القضايا التي يمكنها أن توضح الفكرة.
ففي اليهودية مثلا، الطفل الذي يولد من أم يهودية هو طفل يهودي شرعياً بغض النظر عن جنسية ابيه، بينما هذا الامر ليس هكذا في الاسلام والمسيحية. وفي الاسلام الزواج مباح لحد الزوجة الرابعة، ويمكن أن يتزوج بخامسة وسادسة على أن يطلق ما زاد منهن على أربعة ليبقى ضمن الشرع المرسوم له عقائديا، بينما في المسيحية لا يجوز الزواج باكثر من واحدة. لذلك نقول، هل يجب أن تكون جميع الاديان على شاكلة واحدة لكي يتكامل شرعها؟ أم أن الديانات هي تعليمات وعقد بين الانسان وربه ويتم تنظيم تلك التعليمات بعلاقات شرعية مستمدة من النصوص الدينية في بعض أهم فقراتها حيويةً لكي يستمر العيش والتعايش ويترقى بناء الاسرة والمجتمع؟ فكم من دعوات صدرت من مؤسسات مسيحية بإصلاح الحال والسماح بتعدد الزوجات للضرورة الاجتماعية، ولكنها رفضت جميعاً. فهل سمعنا بانقلاب في الدين وقيل بأن يجب تصحيح ما ورد في الانجيل على ضوء الحاجة الاجتماعية؟ وهل صدرت دعوات من المجتمع الاسلامي بزيادة عدد الزوجات عن اربعة لكي يتم تعديل النص القرآني لتلبية رغبات البعض الداعين بأن النصوص جامدة ويجب تحديثها؟ وهل يمكننا اعتبار الشعائر الحسينية وزيارة ملايين الشيعة الذين يزورون العتبات المقدسة في كربلاء والنجف بأنها خرافة ويجب عليهم تركها؟ فبالتأكيد فيها بعض ما هو مخالف للشرع بتاثير سياسي ونفعي ومحلي وتطرف ديني وهي الان مصدر جدل فيما بين القوى الشيعية المعتدلة بهدف الاصلاح وليس إلغاء الشعائر وهدمها من الاساس.
أما الراغبين من الايزيديين في التغيير، فمن حقهم المطالبة فيما يخدم عملية التطور مع الاحتفاظ بالجوهر، وبالتالي إلغاء بعض الحلقات التي الصقت بالدين. ونتمنى أن يكون التفكير الحقيقي باتجاه البنيان والاصلاح وليس القفز فوق الحقائق، وأن تأتي برامجهم بالبديل المناسب، وليس فقط لإحداث التغيير من دون دراسة واقعية ومتأنية. وكما قلنا في اكثر من مناسبة، فلابد من عقد مؤتمر بتمويل إيزيدي صرف لكي يكون متحررا من الهيمنة السياسية، تشترك في إعداده مجموعات مشهودة بنزاهتها الفكرية والاجتماعية والاخلاقية وتؤسس لفك الارتباط القومي-الديني لكي يأخذ كل منهما مداه الحقيقي، يتدارس فيه الإطار العام الذي ذكرناه في بداية حديثنا بتناول المحاور التالية.
1- قراءة دقيقة، من خلال لجان متخصصة، للواقع السياسي والتحول الديمقراطي على ضوء بنود الدستور الحالي.
2- فصل التراث الديني عن العادات والتقاليد الاجتماعية الصرفة.
3- التباحث في المسائل التي لنا فيها اختلاف مع الديانات الاخرى والاتفاق على مبدأ رسمي متفق عليه وتسمية ناطق رسمي.
4- العمل بجدية ومن خلال لجنة مكلفة على إنجاز قانون الاحوال الشخصية.

أملي كبير في أن تـأخذ هذه المقترحات نصيبها من التعليق والتصويب من قبل المثقفين الايزيديين ورئاسة المجلس الروحاني ومديرية اوقاف الايزيدية والمعنيين بالامر إستكمالا للفائدة. مع تقديري واحترامي.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- الاصلاح والتغيير في الوطن العربي.... رؤية حضارية، للدكتور جاسم الفارس. مركز الدراسات الاستراتيجية في جامعة الموصل،2004.
2- محاضرة 2 للباحث الفاضل حسو أمريكو، مكتبة حنا آرنولد. المانيا.
3- هذا هو الاسلام (4) الموقف من الديانات الاخرى ص49، د. محمد عمارة، مكتبة الشروق الدولية. 2005.

علي سيدو رشو
القاهرة في 22/4/2009


0 التعليقات: